اقتصاد

حجّ دمشقي

| علي محمود هاشم

لم تكن ليلة اقتصاد، كانت كل شيء إلا ذاك، بصوت واحد، دوت صرخات الانتصار من حنجرة الطوفان البشري الزحف نحو معرض دمشق الدولي، مئات الآلاف من الزوار وآلاف الشركات من 43 دولة أنشدوا معاً، جناس بصري ارتدّ بالذاكرة إلى ساحات المدن السورية أول الحرب وقد اتخمت بأهلها رفضاً لحرب الطمس التي استهدفتهم، واستحضر «عظة بيروت» و«الكلمة البدء» التي ألقاها سيل السوريين في انتخابات 2014 على مسامع الغرب وعملائه.. «لكنهم لا يؤمنون»!
صراخ النصر على دروب مدينة المعارض، ردد صدى الانتصارات مع كل حبة تراب عبّت حاجتها من دماء حماتها، واستلمح الرقة وإدلب هامساً: أنت حرّة، وما بقي في جيوبك الصغيرة من تكفيريين وعملاء وحالمين بالإقطاعيات الشوفينية، إلى زوال.. معرض دمشق، ذاكرة اقتصادنا، وخزان خبراته المتوارثة لآلاف السنين، تثقّل هذه المرة بملامح الانتماء، وأفشى السر الشامي في تقدير الحياة حد عيشها، وقدسية الوطن حد التماهي مع ما بُذل لأجله، كان طوفانه العظيم رسولاً دمشقياً يذرع طريق الخلاص قاصّاً للعالم أن الأرض إيمان سرمدي يٌحجّ إليها من كل فجّ، وتُذرف لها الدموع: فرحاً، وفخراً، وحزناً، وحسرة لما كان ليكون.. هذا التشابك الوجداني الفريد في إشاراته، استجلى الشخصية السورية لحظة تشابك مأساتها بالأمل.
خلال الساعات الخمس التي قضاها المنهمرون انتظاراً على طريق المعرض، فاحت عدوى الإيمان بالنصر، وحامت الأرواح حارسة للحلم كرّة أخرى، السنوات السبع من الحرب، والخمس في انتظاره عودته، انقلبت مساء يوم الجمعة ترجمة بصرية لغزنا العصيّ على متعهدي الموت: الحياة تستحق أن تبذل لأجلها الحيوات.
كانت بيوت دمشق فارغة، هذه العاصمة التي لم يستطع تنظيم القاعدة زحزحة أهليها رغم استهدافهم اليومي بالقذائف والانتحاريين، نزحت أمس الأول طوعاً نحو مدينة المعارض، لقنت من لا يعرفونها درساً بلغة طيور الفينيق، وهمست لحوذيّي أحصنة الغرب ولمنافقي الصلاة الأميركية في الجامع الأموي، حارس أحلام دمشق للألفية الثالثة على التوالي: «اخلع نعليك.. وابلع لسانك» إنك بالوادي المقدس، وعند مدخله، رفرفت الأعلام بمهابة، متحلّقة بصلابة حول صنوها السوري، هذه اللحظة التي لن تنساها الشام، نسجت لوحة عفوية لخريطة مناهضي الحفر الجائر في ملامحها بعدما أسند الغرب مهمته لعملائه الماضويين الوهابيين وانكشاري الإخونج في محاولة يائسة لخنق همزات الوصل، وسحق التحضّر السوري، وشق خنادق طويلة في وجهه عبر زرع الأشواك عند مفارق بلداتها، دورته هذا العام، تليق بالولادة فعلاً، لا لوجهه الاقتصادي، ولا لاتساعه أو ملامحه الدولية، بل لتجسّد العائلة العالمية التي ننتمي إليها بأيديهم المتشابكة من بحر الصين وحتى سواحل الكاريبي غرباً، فوفق الملامح الموضوعية، تمظهر المعرض إعلاناً عالمياً عن تقهقر عصر البترودولار، وعلى أرضه ارتسمت ملامح سورية الميناء الذي ستتقاطع عنده شطآن البحار الخمسة، وصولاً إلى النهوض المفاجئ الذي سيكون عليه الشرق.
كان المعرض كبيراً، وأكبر من أحلام الحكومة واستعداداتها، فانزلق الإقبال إلى اختناق، ورزحت الاتصالات تحت الهبوطات، وفشلت خطة النقل، كل ذلك، ألمح مجدداً إلى مشكلتنا المريرة في تزامن «النبض»، وسوء تصوراتنا عن جذوة الشارع المتقدة، في إحدى اللمحات الجزلة، كانت سيارة شاحنة ضخمة لنقل الرمال تقل جمهوراً غفيراً قفل راجعاً لفشله بالوصول إلى المعرض، فملأ ليل الطريق هتافاً بالمجد للوطن.. كان المعرض بمنزلة اللحظة التي راودت السوريين حلماً لليالي الـ2340 الأخيرة، فالمجد كل المجد لمن مدوا جسومهم جسراً كي تعبر ذاكرتنا بأمان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن