ثقافة وفن

الدكتور محمود حمود يبوح عن بعض أنين الآثار السورية … تدمير ممنهج يريد محو ذاكرة السوريين وهويتهم.. والآثار تبقى

| خلدون زينو

تعرض الإرث الثقافي السوري إلى تدمير وحشي ممنهج خلال الحرب الكونية على سورية، أدى إلى إزالة مئات المواقع الأثرية من تلال وأبنية ومنشآت مختلفة، في محاولة لنسف ذاكرة السوريين وحاضرهم ومستقبلهم…

ما آخر المعلومات حول واقع الآثار السورية وخصوصاً المنكوبة؟
لم يعد خافياً على أحد حجم الدمار الذي طال معظم مواقعنا الأثرية التي وقعت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية المسلحة، وأنه لأمر محزن أن ترى مثل هذا الدمار الكبير والتخريب الممنهج الذي تعرضت له هذه المواقع في سبيل محو ذاكرة السوريين وهويتهم وكل ما يذكرهم بأمجادهم وقدرتهم على الإبداع وتبوؤ ناصية الحضارة. في المحصلة، معظم التلال والمواقع الأثرية التي وقعت تحت نير المجموعات الإرهابية تعرضت للاغتصاب والاستباحة ولأعمال تنقيب غير شرعية بحثاً عن الكنوز واللقى والتماثيل لتمويل العمليات الإرهابية. وهذا ما أدى إلى إزالة الكثير من هذه التلال من الوجود، أو أتلفت طبقاتها الأثرية بكل ما فيها من عمارة وقصور ومعابد ومدافن، لاسيما في الحالات التي استخدمت فيها آلات ثقيلة للتنقيب عن محتويات هذه التلال، وإذا أردنا الحديث عن جميع هذه المواقع فالقائمة تطول مع الأسف. ومن المحزن أن ترى مئات آلاف القطع الأثرية تباع وتشترى في الدول الغربية وفي تركيا مصدرها هذه التلال في سورية والعراق، والتي كانت تشكل يوما مدنا وبلدات وعواصم عامرة بالحياة.
أما المباني فالدمار الذي لحق فيها مخيف ولا سيما في حلب القديمة وأسواقها، التي مسح الكثير من أبنيتها عن وجه الأرض، وتضررت الأبنية الأخرى بنسب متفاوتة. وكذلك أصاب الدمار أسواق وبعض أحياء حمص القديمة ودير الزور، وبصرى الشام، ولا ننسى الدمار الذي لحق بتدمر لاسيما معبد بل الذي، نظراً لضخامته وعظمته، فقد تم تفجيره باستخدام كميات كبيرة من المتفجرات، وكذلك حال قوس النصر والمدافن البرجية الجميلة المؤلفة من أربعة طوابق وغيرها الكثير. كما تم تدمير مدينة دورا أوروبس على الفرات ونقبت عشرات الهكتارات منها، وكذلك مدينة أفاميا في سهل الغاب، وترينا الصور الحديثة للأقمار الصناعية الملتقطة للمواقع الأثرية فداحة الضرر والأذى الذي لحق بمواقعنا الأثرية، وقد أصدرت مديرية الآثار كتابين عن المباني والمواقع الأثرية التي تعرضت للدمار الجزئي أو الكلي. إنه أمر مهول ومرعب لم يشهد التاريخ الإنساني فتكاً بالإرث الثقافي كالذي حصل في بلادنا على يد التخلف والحقد بكل أشكاله وأدواته.

هناك حضور ونشاط لمديرية الآثار على المستوى الخارجي، على رغم الحصار الخارجي على سورية، ورغم الاستهداف الدولي والإقليمي للهوية السورية، ماذا عن هذا النشاط؟.
للآثار السورية والرافدية قيمة عالمية كبيرة ولكن، ويا للأسف، لا كرامة لها ولا لمعظم من يعمل فيها في بلداننا. بينما تحظى بكل التقدير والاحترام والتبجيل من شعوب الدول المتقدمة وحكوماتها، ومنها تلك التي تختلف معنا في السياسة. والسبب أن هذه الشعوب تعي قيمة الآثار السورية وتنادي بالحفاظ على الإرث الثقافي السوري لأنه إرث عالمي لا يخص سورية وحدها. لقد نجح علماء الآثار الغربيون الذين عملوا في بلادنا في إيصال قيمة وعمق ورفعة الحضارة السورية والرافدية وما قدمته للعالم، لشعوبهم وحكوماتهم. وهذا ما ظهر واضحاً في وقوف الكثير في الحروب المستمرة على مشرقنا العربي عندما تناهى الكثير من هؤلاء العلماء للوقوف مع شعوب المنطقة والمناداة بوقف العدوان عليها. وهنا لا بد من ذكر الموقف المشرف لعالم الآثار الأمريكي مكواير جيبسون خلال العدوان الأمريكي على العراق والنشاط الكبير الذي أداه مع مجموعة من العلماء ودفعوا المنظمات الدولية في سبيل الوقوف ضد تدمير التراث العراقي وقاموا بفضح الأعمال الإجرامية للجيوش المحتلة. لقد كان من نتائج عمل البعثات الغربية في مواقعنا الأثرية سابقاً، الكثير من الإيجابيات أهمها تعريف الغربيين بحقيقة هذا التراث الموجود على أرضنا، ومن هنا نجد هذا التعاطف الكبير مع إرثنا الثقافي، نجد المواقف القوية لدى علماء الآثار التي أثرت في كثير من الأحيان على شعوبها وغيرت نظرتها من الأحداث لا بل ساهمت في تغيير الكثير من الحكومات لمواقفها السياسية. لقد تبدى الاهتمام العالمي بآثارنا من خلال القرارين الدوليين 2199 و2347 اللذين صدرا عن مجلس الأمن وقضيا بمنع الاتجار بالممتلكات الثقافية في العراق وسورية، كما تجلى في الدعم المادي والمعنوي الذي تلقاه مديرية الآثار من مختلف المنظمات الدولية ومنها منظمة اليونيسكو ومنظمة الأمم المتحدة، ومن حكومات الدول المتقدمة التي يعقد على أرضها الكثير من الندوات والمؤتمرات التي تهدف إلى حماية التراث الثقافي السوري وتقديم الدعم اللازم له. وكان آخرها المؤتمر الذي حضرناه في ولاية نارا اليابانية بين 11-16/7/ 2017، وكان عنوانه «حماية التراث الثقافي السوري للأجيال القادمة – رسالة من نارا».

ماذا عن مجريات ونتائج المؤتمر؟ وهل من جدوى لهذه المؤتمرات؟
في البداية أقول إن الثقافة قادرة على اختراق أي حصار اقتصادي أو سياسي يفرض على أي بلد، إذا ما كان أداء المثقفين جيداً. فكيف بالثقافة السورية ولاسيما بجانبها التراثي؟ فهي تمتلك حضوراً كبيراً على مستوى الكرة الأرضية، ولها احترامها في معظم أنحاء العالم المتحضر. وهنا نذكر أنه كان لدينا في سورية نحو مئة بعثة أثرية أجنبية تعمل للكشف عن كنوزنا الحضارية. وقد قام الكثير من رؤساء هذه البعثات وأعضائها بدور كبير في الدفاع عن سورية منذ اندلاع الأزمة. وكان لهم دور كبير في إيقاظ الرأي العام في بلادهم والوقوف ضد الحملة الإعلامية العدوانية المغرضة التي كانت تتعرض لها الدولة السورية. وهذا ما تحقق في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، والآن في اليابان. وقد شارك سياسيون من هذه البلدان في حضور وافتتاح الكثير من هذه المؤتمرات، وهو تعبير عن وقوفهم إلى جانب الدولة السورية التي تحمي تراثها وتعمل على رعايته وصيانته وترميمه. وقد صرحوا عن مواقفهم بشكل واضح وجلي وهذا ما حصل في مؤتمر نارا في اليابان الذي كان لنا شرف حضوره وعقد تحت عنوان: حماية التراث الثقافي السوري – رسالة للأجيال، ودعيت لحضوره القائمة بأعمال السفارة السورية في طوكيو ممثلة للجانب الحكومي السوري. كما افتتحه السيد شوغو أراي حاكم ولاية نارا، والسيد موتومي تاكيساوا معاون وزير الشؤون الخارجية في البرلمان الياباني والسيد فوتشوي ماتسوموتو القائم بأعمال السفارة اليابانية في سورية. وقد زاد من ثراء المؤتمر مشاركة العلماء والباحثين الذين جاؤوا من العديد من البلدان الأوروبية، وشاركت فيه الفنانة اليابانية الكاريكاتورية الشهيرة ماري يامازاكي، والسيدة كريستينا ميناغازي مندوبة اليونيسكو في بيروت، والسيد صموئيل رزق منسق أعمال الأمم المتحدة في سورية. واستعرضت الأوراق المقدمة للمؤتمر حال المواقع الأثرية السورية والأخطار التي تتهددها والجهود التي تبذلها الدولة السورية في سبيل الحفاظ عليها. كما تركزت النقاشات على كيفية حماية التراث الثقافي السوري العريق وضرورة تقديم كل أوجه الدعم لحماية ما تبقى منه وضرورة العمل على مساعدة الدولة والشعب السوري في سبيل إعادة تأهيل المواقع التي تعرضت للدمار والتخريب على أيدي المجموعات الإرهابية، وترميمها والقيام بكل ما يلزم من أجلها، كي تبقى شاهداً للأجيال القادمة على عظمة الحضارة السورية. وانتهى المؤتمر بتوجيه رسالة من نارا تتضمن مجموعة من التوصيات التي نتجت عن المناقشات التي تم طرحها والتي تصب في مصلحة التراث الثقافي السوري، ومنها ما يأتي: ونحن نجتمع في نارا، نؤكد التزامنا بدعم الشعب السوري في مهام استعادة تراثه والحفاظ عليه من خلال تقديم كل أشكال الدعم للمساهمة في ترميم وإعادة أعمار هذا التراث. وقد أقيم على هامش المؤتمر مجموعة أنشطة منها، معرض صور للمواقع الأثرية السورية، وسوق للمنتجات التقليدية السورية كصابون الغار وزيت الزيتون وغيرها وقد لقي المؤتمر تغطية كبيرة من وسائل الإعلام والصحافة اليابانية وعلى رأسها التلفزيون الياباني NHK، وكان لأعمال المؤتمر صدى كبير في أوساط الشعب الياباني. وأقول إن هذا النوع من الأنشطة مؤثر جداً في الأوساط العالمية التي تقدر التراث الثقافي الإنساني وتحترمه أينما وجد في العالم.
هذه عينة عن قيمة الثقافة السورية في الخارج والأثر الذي تتركه على الشعوب والمجتمعات المتحضرة، وأنا على قناعة أن الثقافة تستطيع بناء جسور مهمة بين الشعوب والدول، ولاسيما عندما تقف السياسة عائقاً في سبيل تحقيق ذلك. وعلينا استغلال هذا الجانب واقتناص أي فرصة في سبيل إيصال الصورة الصحيحة لأكبر الشرائح في مجتمعات هذه الدول، عما تعرضت له سورية بشكل عام وتراثها بشكل خاص.
ولكن هناك نقطة في هذا الجانب لابد من ذكرها وهي، من المعيب أن نرى الأجنبي والغريب يهتم بحماية آثارنا، ويعمل بكل السبل من أجل الحفاظ عليها وترميمها وصيانتها، وبالمقابل نجد شرائح كبيرة من أبناء مجتمعنا السوري ليس لديها الحد الأدنى من هذه المواقف التي تنم عن وعيها بهويتها، حتى أولئك الذي يمتلكون أعلى الشهادات العلمية. لا بل إن قسماً كبيراً من مجتمعنا ينظر للآثار نظرته إلى القيمة المادية والنفعية فقط، وبالتالي ساهمت شرائح كبيرة من المجتمع السوري في تدمير المواقع الأثرية السورية وكانت سعيدة بفعلتها الشنيعة. أقول إن أمثال هؤلاء لا يستحقون العيش في وطن اسمه سورية.

أين أصبحتم في موسوعة الآثار السورية؟
صدر الآن المجلد الثالث الذي يتضمن المواقع الأثرية التي تبدأ بحرف الباء كما بدأنا الإعداد فنياً للمجلد الرابع، في حين أن لدينا مادة علمية لما لا يقل عن ثلاثة مجلدات أخرى. ونذكر أن الموسوعة تعد الأولى من نوعها في الوطن العربي، وهي تقدم المادة العلمية الرصينة والمختصرة عن كل المواقع الأثرية السورية وعن بعض مواقع سورية الكبرى. وتتألف الموسوعة من أربعة أقسام، تغطي مئات آلاف السنين من الحضارة، هي: قسم ما قبل التاريخ، قسم العصور التاريخية القديمة، قسم العصور الكلاسيكية، وقسم العصور الإسلامية، ويسهم في العمل فيها مجموعة من الأكاديميين والخبراء المتخصصين، كما يشارك فيها أيضاً كثير من الباحثين داخل القطر وخارجه. وتتميز الأبحاث بتناولها كل موقع أثري بلغة واضحة وبأسلوب علمي ومنهجي رصين ومقتضب، لتقدم لقراء العربية، من مهتمين وطلاب وباحثين، زبدة المعلومات العلمية المتعلقة بكل موقع، والتي توصلت إليها أحدث الدراسات الأثرية والتاريخية.

ما أهم أعمال التنقيب والاكتشافات الحديثة؟
اكشفنا العام الماضي منحوتة حجرية كبيرة في بلدة رخلة في جبل الشيخ هي الأولى من نوعها في سورية، وضعت فوق مدخل أحد المدافن وهي تمثل كاهنا يظهر بلباسه التقليدي وهو يعتمر قلنسوة، ويمسك بيديه حزمة من أغصان النباتات وفي اليد الأخرى إبريق وهو يقوم برش المادة السائلة في الإبريق على المعبد والمتعبدين ومقتنيات المعبد.
كما اكتشفنا لوحتي فسيفساء خلال أقل من شهر في بلدة برهليا في وادي بردى، كان آخرها منذ عدة أيام، هذا إضافة إلى لوحة جئنا بها منذ ثلاث سنوات من الموقع بمساعدة المجتمع المحلي نظراً لوقوع المنطقة خارج سيطرة الدولة آنذاك. وتحمل جميع هذه اللوحات مشاهد متنوعة هندسية ونباتية ودينية جميلة نفذت بمكعبات حجرية صغيرة ذات ألوان متعددة ويرجع تاريخ اللوحة الأولى إلى القرن الخامس للميلاد، والثانية إلى القرن الرابع والثالثة والأخيرة إلى القرن السادس للميلاد. تأخذ أعمالنا التنقيبية في هذا الموقع خلال هذه المرحلة الصفة الإنقاذية، فالموقع الذي كان مسجلا على لائحة المواقع الأثرية الوطنية منذ 1998 تعرض لاستباحة وأعمال تنقيب غير شرعية مخيفة وللأسف ما زال يتعرض لهذه الأعمال حتى الآن ومن هنا جاء تدخلنا لوقف هذا العدوان على الموقع، وقد أفلحنا بعض الشيء لكن عملنا يواجه الكثير من الصعوبات والعقبات والتحديات..

بعد هذه الحرب المتوحشة، هل يمكن الحديث عن الوعي بقيمة الإرث الثقافي السوري، وكيف؟
إن حماية التراث الثقافي السورية واجب تقع مسؤوليته على عاتق الجميع من مؤسسات رسمية ومجتمع محلي وأفراد، ومؤسسات دولية وغيرها. فعلى المستوى الوطني لا بد من الاعتراف بوجود تقصير كبير في بث الوعي بحقيقة وقيمة الحضارة السورية لأبناء شعبنا. لقد فاتنا أن ننشئ جيلاً نعلمه منذ الطفولة ضرورة معرفة هويته وانتمائه واحترام الآباء والأجداد والحفاظ على تراثهم. لم نفعل ذلك ولو فعلناه لظهرت نتائجه خلال هذه الأزمة، دون أن ننكر بعض الجهود الفردية التي أثمرت هنا وهناك، وهي جهود استثنائية ومبعثرة. وتصريحات بعض المعنيين بوجود مجتمع محلي استطاع حماية الآثار (من متاحف ومواقع)، فيه الكثير من المبالغة. وهنا أنوه إلى قيام بعض ما يسمون أنفسهم المعارضين، وهم من الذين عملوا في مديرية الآثار سابقاً وخربوها من الداخل، ورضعوا من ضرعها حتى الثمالة، يحاولون الإيحاء ببعض الإنجازات، من قبيل رعاية بعض المواقع والمتاحف، أو ترميم بعض القطع الأثرية. لكن هذه المحاولات في حقيقة الأمر أعمال استعراضية عديمة القيمة، هدفها المتاجرة بقضية الآثار، واستجداء من يدفع رواتبهم بالدولار من خلال إقناعهم أنهم قادرون على العمل على أرض الواقع عبر بعض الموظفين الذين بقوا في مواقعهم، وهي أيضاً محاولة مستقبلية لتبييض وجوههم تجاه الدولة والمجتمع.
كل إنسان متحضر يصيبه الذهول مما تعرضت له المواقع الأثرية السورية على يد أبناء البلد قبل غيرهم، هؤلاء الذين كانوا عاقين لوطنهم فأجهزوا على ممتلكاته جسدا وروحاً عندما ضعف وبدا يئن من شراسة العدوان. يجب على الدولة أن تحاسب هؤلاء عندما يحين الوقت لذلك. كما أن عليها أن تضع إستراتيجية وطنية تشارك فيها مجموعة من الوزارات بما فيها الإعلام والتعليم والتربية والأوقاف والدفاع وغيرها لتعريف أفراد المجتمع المحلي بقيمة هذه الإرث الذي بين أيديهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن