قضايا وآراء

الشقيق الجنوبي «بائع الترانزستور»

| عبد المنعم علي عيسى

دون أدنى شك يمكن اعتبار الأزمة الكورية أحد نتاجات نظام القطبية الأحادي الذي ما انفكت واشنطن تمارسه بطرق مذلة ومهينة للشعوب ولقياداتها حتى وهي تفرض «إتاواتها» عليهم.
فعلى امتداد الحرب الباردة ما بين عامي 1949 – 1989 لم تتمرد دولة من الدول 187 الذين وقعوا على اتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية في الأول من حزيران العام 1968 «باستثناء إسرائيل»، ولم يحدث أن ذهبت إحدى تلك الدول إلى إعلان نفسها بلداً نووياً، على الرغم من وجود العشرات منها ممن يملكون التكنولوجيا النووية والقدرات المالية والكوادر المناسبة للسيطرة عليها، لأن السلاح النووي في النهاية هو عبء ثقيل إضافة إلى كونه سلاحاً رادعاً ومهماً.
في المقابل، رأينا العديد من حالات التمرد ما بعد الاستفراد الأميركي بالهيمنة العالمية، فكان أن أعلنت الهند نفسها دولة نووية في عام 1998، وبعدها بأيام قليلة فعلت الباكستان الشيء نفسه، ثم ما لبثت أن أعلنت طهران في آب 2005 عن إعادة تخصيب اليورانيوم، والأمر نفسه فعلته كوريا الديمقراطية التي انطلقت أزمتها منذ عام 1996، قبل أن تعلن هذه الأخيرة عن نجاح أول تجربة نووية كانت قد قامت بها في تشرين الأول عام 2006، ثم تتالت التجارب إلى أن بلغت خمس حتى الآن، والشيء الجديد والخطر كان في تطور تكنولوجيا الصواريخ، جنباً إلى جنب مع التكنولوجيا النووية، وفيه استطاعت بيونغ يانغ إنتاج صاروخ بالستي بعيد المدى أطلقته بنجاح في تموز الماضي ليصبح الخطر الكوري مطبقاً على النفس الأميركي عبر امتلاك كوريا للسلاح النووي ولأدوات إيصاله إلى حيث يجب أن يصل إليه.
مارست أميركا عولمة التجارة وحواجز الحماية الجمركية ما ساعدها في الحصول على خلاصات الزبدة الاقتصادية العالمية، حتى إذا ما علمنا أن واشنطن كانت وعلى مر العقود السبعة الماضية هي من يحدد سعر الطاقة العالمي وإذا ما أضفنا كل ذلك إلى «دولرة» الاقتصاد العالمي الأزلية، تأكدت حينها السطوة الأميركية الاقتصادية على العالم، والتي لا يمكن لواشنطن أن تقبل بخسارتها إلا بحرب عالمية تخسرها.
كان ذلك متزامناً أيضاً مع عولمة فكرية وثقافية، ساحقة في بداياتها، إلا أنها عادت وتعثرت بعد لترتد الكثير من الغايات على أعقابها، وفي الغضون أدت تداعيات العولمة الشاملة إلى إنتاج سياسيين هواة بعيدين كل البعد عن ثقافة السياسة وممارساتها، والكارثة هي أن تلك العملية كانت قد تمخضت عن حراك مجتمعي ثقافي أميركي بالدرجة الأولى، ما أدى إلى إنتاج وفير من أولئك الساسة الذين باتوا يسيطرون على مفاصل القرار في بلاد العم سام، ولربما كان مثالهم الأبرز الرئيس الأميركي دونالد ترامب المغرم باستخدام تويتر لإيصال ما يريد إيصاله حتى ولو أدت تغريداته إلى نشوب نزاعات أو حتى حروب.
تدرك الولايات المتحدة أن لبيونغ يانغ مفتاحاً واحداً لقفلي الحرب والسلام، هو بكين، والمقلق لها هو أن الصين لا تزال تمارس دور المراوغة تجاه جميع المحاولات الأميركية الرامية للوصول إلى القلب الكوري، وهي تدرك أيضاً أن بكين ما كانت لتوافق على فرض عقوبات اقتصادية على بيونغ يانغ مؤخراً لولا توافر بدائل عدة للدور الذي تؤديه هي اتجاه هذه الأخيرة، وهو ما تبدى سريعاً عبر إعلان إيران والفيليبين عن رغبتهما في شراء الحديد والفحم والأسماك من الدولة الكورية، ما يوفر لخزينة هذي الأخيرة ما يزيد على مليار دولار في لعبة أمم معقدة من الصعب فهمها، ما لم تكن متكاملة أو تتوافر لها نظرة بانورامية شاملة.
استطاع النظام الكوري الديمقراطي الذي يعتبر أحد مخلفات الستالينية، الصمود ما بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي انطلاقاً من مجموعة عوامل أهمها: الحفاظ على حبل المشيمة المرتبط بالصين قوياً تحت أي ظرف من الظروف، واللافت هو أن بكين كانت تسعى إلى استثمار التمرد الكوري لمصلحتها في علاقتها مع الأميركيين، وهي إلى الآن «شيلها لعوزة» كما يقول المصريون، ولربما كانت قد نجحت في العديد من محطات هذا المسار، ومن تلك العوامل، العداء الأخوي مع الشقيق الكوري الجنوبي، ما شكل دافعاً داخلياً صلباً لدى كليهما لإثبات وجود الذات والقدرة على النجاح، و«الشماليون» يقولون: إذا ما نجح «الجنوبيون» في تحقيق قفزة اقتصادية نوعية كبرى بدعم غير محدود أميركي غربي ياباني، إلا أن ذلك كان على حساب سيادتهم واستقلال قرارهم، وهو ما حولهم إلى مجرد «بائع ترانزستور»، على حين استطعنا، والكلام لـ«الشماليين»، تحدي الأميركيين وفي عقر دارهم أيضاً.
لم يسبق أن مرت الإدارة الأميركية بإحراج أمام شعبها أو جمهورها كذاك الذي مرت به خلال الشهرين المنصرمين، ولسوف يحفر تموز وآب 2017 عميقاً في الذات الجماعية الأميركية، ففي السادس والتاسع من الشهر الأخير، استخدمت أميركا القنبلة النووية لضرب اليابان عام 1945، وفيه أعلن رئيس كوريا الديمقراطية كيم جونغ أون عن أنه عازم على ضرب جزيرة غوام الأميركية بأربعة صواريخ بالستية بعيدة المدى، وهي جزيرة تبعد 3500 كم عن الشواطئ الكورية، حتى في أيام أزمة خليج الخنازير عام 1961، لم تقف إدارة كينيدي عاجزة، كما فعلت إدارة ترامب مؤخراً، وهي لم تستطع أن ترد على التحدي الكوري سوى بحشرجات، بدا وكأن مطلقيها قد استعاضوا بها عن ردود الكلام.
كانت ممارسات بيونغ يانغ لسياسات حافة الهاوية، قد أدت إلى ارتعاد واضح للفرائص الأميركية، تلك التي قالت يوماً إنها لا تحتمل تهديدات صدام حسين في عام 1991 بإمكان استخدام أسلحة الدمار الشامل، حتى ولو كان هذا الأخير يكذب أو يدعي امتلاك ما لا يمتلكه.
ستصمد كوريا الديمقراطية بفعل ثغرات هائلة يؤمنها لها نظام القطبية الأحادي الجائر، ولربما أدت الهفوات والمطبات العديدة التي وقع نظام بيونغ يانغ بها وخرج منها بأقل الأضرار، إلى شعور عارم للثقة بالنفس لديه، حتى أنه يرى بأنه استطاع أن يحشر واشنطن في «خانة اليك» بعد أن نجحت هذي الأخيرة بجعل العالم كله حقل رمي لجنودها وتجارب أسلحتها، إلا أن تلك القوة الكورية «وهمية» أو هي خادعة، فالثقة بالنفس والنجاح هنا، ليسا أصيلين، وإنما استولدتهما ظروف موضوعية معينة، وما من أحد يستطيع أن يحدد إلى متى يمكن أن تستمر أو تدوم؟
ما تشير إليه الانكفاءة الأميركية تجاه النزعة الكورية الأخيرة، هو أن واشنطن لن تذهب إلى المواجهة مع بيونغ يانغ حتى ولو قامت هذي الأخيرة بقصف جزيرة غوام، وهو ما تدركه كوريا جيداً، ولذا فإن الخيارات المقترحة للتعامل مع التهديد الكوري لا تعدو أن تكون باستخدام أسلوب الاختراق والتفكيك من الداخل، كأن تقوم بدعم «تنسيقيات» كوريا الديمقراطية، أو تقوم بدعم حملة «الأعلام البرتقالية» الكورية، أو بتأييد «الثورة الخضراء»، ولربما كان هذا الخيار متاحاً، أو هو يملك اليسير من الحظوظ انطلاقاً من وجود شرائح واسعة متضررة من نظام بيونغ يانغ في الداخل الكوري، إلا أن العائق الأكبر فيه هو النجاح في السيطرة على الحقيبة النووية الكورية قبيل أن تعطي واشنطن شارة البدء لانطلاق الفوضى واللا استقرار، فأي عمل من هذا النوع قبل أن تفعل ذلك، هو عمل جنوني بالتأكيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن