قضايا وآراء

لكانت هزيمة حضارية

| عبد المنعم علي عيسى

سحبت البسط الإقليمية والغربية والأميركية من تحت أقدام المعارضة السورية، فبدا مشهد الترنح والسقوط مزلزلاً، وهو في بعض جوانبه مثير للشفقة، وعلى الرغم من أن هذا المآل الأخير كانت تباشيره قد اتضحت منذ بضع سنوات، إلا أن السقوط جاء صادماً للكل لجهة حدته وشموليته اللتين كان من شأنهما أن تمحوا نسجاً وتيارات وخلايا تم العمل على بنائها طويلاً، ولربما كانت مسألة التفكيك لتلك البنى في هذه الحالة هي أصعب بكثير من حالة البناء نفسها.
لم تستطع المعارضة السورية على الرغم من التحاق الكثير من النخب الثقافية والسياسية بها، قراءة المشهد السوري الداخلي بدقة، ومن ثم إعادة ربطه بالمعادلات الإقليمية والدولية القائمة مع مراقبة متغيراتها المتسارعة، فكان لزاماً عليها السقوط والانهيار والدخول في نفق مظلم يصعب عليها رؤية الضوء في آخره.
لم تستشر الدولة السورية بالتأكيد في موضوع الحرب، وإنما فرضت عليها، بل لم يكن أمامها فرصة لتحاشيها أو تجنبها، فخيارات من هذا النوع كانت تعادل تماماً انحلال وتفكك الجغرافيا السورية بكل مكوناتها، والمؤكد أن خيار المواجهة كان هو الأقل كلفة، على الرغم من تكاليفه الباهظة، انطلاقاً من أن ذلك الخيار كان يمثل السبيل الوحيد لوقف تتالي الانهيارات التي سيشكل تراكمها في النهاية هزيمة حضارية للدولة وللمجتمع السوري، التي تفترض شطب قرن كامل من الزمن بكل تحولاته أو القفزات التي تحققت فيه.
عندما تخسر قوة ما، أي قوة، معركة أو حرباً أمام قوة أخرى عدوة لها، هي أقل منها في الترتيب على السلم الحضاري، فالهزيمة تصبح عندها هزيمة حضارية، وهي مختلفة جذرياً في طبيعتها ونتائجها عن نظيرتها من الهزائم العسكرية الأخرى التي تنجم بفعل خسارة الحرب في حالة القوى المتعادلة أو المتقاربة حضارياً بين الجيوش.
شكلت هزيمة العرب أمام المغول بقيادة هولاكو، هزيمة حضارية صارخة المعالم والتداعيات، حتى إنها كانت المدخل الأساس لدخولهم عصر الانحطاط وركب موجة الانهيارات الكبرى التي شهدتها المنطقة برمتها والتي طال أمدها، ولم تستطع كل المحاولات التي جرت أن تضع حداً لخواتيمها أو نهاياتها على الرغم من أن الكثير منها كان يمتلك الجدية والحظ الوافر وجذوة الاندفاع.
فيما بعد سقوط بغداد عام 1258، قام المغول بتدمير البنى المجتمعية والثقافية بما فيها حواملها المسؤولة عن عملية انتقالها من جيل إلى آخر، بالتزامن مع انتقال تلقائي لبنية أخرى غير مرئية تسير جنباً إلى جنب بمحاذاة العملية السابقة، وهي تحمل في طياتها الآليات المساعدة التي يمهرها الزمن بأختامه أو يضفي عليها صبغته المختلفة من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وعلى عاتق هذي الأخيرة، أي الآليات المساعدة، أو على عاتق نجاحها في المهمة الموكلة إليها، يتوقف توصيف قوة، أو دولة، أو مجتمع ما، بقدرته على المواكبة أو مجاراة المحيط، وكذلك الزمن، وجميع ما سبق هو الذي يشكل الأرضية المناسبة لقيام عملية الارتقاء من درجة إلى درجة أعلى على السلم الحضاري.
كانت الأدوات المستخدمة لإيصال المعارضة السورية إلى سدة السلطة تتكون أساساً من «القوى المغولية» التي من شأن الهزيمة أمامها أن تكون هزيمة حضارية بكل المقاييس، ولو قدر لهذا الأمر أن يحدث لكانت المنطقة برمتها قد دخلت في أتون مناخات القرن الثالث عشر التي حولت الحضارة العربية برمتها إلى أكوام ركام ودمار، والغريب أن الكثير من المعارضين السوريين كان مدركاً لذلك المخطط، إلا أن ذلك لم يمنع أحدهم، أو بعضهم، من السير فيه على الرغم من أنه، أي المخطط، يقع على الطرف النقيض من شعاراتهم أو أهدافهم.
كان الحقد وإسقاط النظام بأي ثمن هما المحركان الأديولوجيان الأساسيان، فيما المحركات الأخرى كانت جميعها معطلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن