قضايا وآراء

قومية مفجوعة

| عبد المنعم علي عيسى

لعلنا سنقوم في سياق ما نحن ذاهبون إليه في هذه العجالة، بنَكء جرح قديم في مناخات غارت فيها الجراح حتى تشابكت، وعُذرنا في ذلك هو أننا إن لم نفعل اليوم فإننا بالتأكيد لن نفعل ذلك في أي يوم من الأيام.
تميز النصف الثاني من القرن العشرين بصعود بارز للايديولجيات اليسارية التي كانت تستمد قوتها من مناخات التحدي السوفييتي لمحاولات الهيمنة الأميركية على العالم، واللافت أن تلك الايديولجيات كانت شيئاً فشيئا تنحدر نحو تبني مسارات متطرفة، حتى باتت «ملكية أكثر من الملك»، وفي هذا السياق كان قد برز العديد من الظواهر مثل تشي غيفارا في كوبا أو بول بوت في كمبوديا، واللتين تميزتا بأداء يساري أصولي متشدد، كان مؤشراً على مرور الايدولوجيا الشيوعية بمأزق فكري معرفي يحتاج إلى علاج سريع، فيما كان استمرار تلك الظواهر بالتوهج نذيراً استباقياً على أفول شمس الاثنين معاً.
أصابتنا نحن في سورية، إحدى شظايا تلك الموجه بوصول حركة 23 شباط 1966 إلى السلطة، والتي أظهرت تطرفا كان من الواضح أنه يحمل بذور فنائه في دواخله، فلم يكن ممكنا لكثير من شرائح المجتمع السوري تحمل ذلك المآل الذي لا أحد يعلم كيف سينتهي، ولا كان ممكنا للخارج أن يستطيع تحمل هكذا تطرف قائم على أعتاب آبار النفط وفي منطقة من يمسك بها يمسك ببيضة القبان في ميزان هذا الشرق العريق.
بالتأكيد لم تكن جميع المواقف التي تتبناها تلك الظواهر سلبية، بل إن بعضها كان في حينه سلبيا ليتضح بمرور الزمن أنه لم يكن كذلك، ولربما كان هذا النموذج الأخير هو المهم لنا هنا.
كان أحد المرتكزات التي يتبناها «الشباطيون» هي رؤيتهم للصراع العربي الإسرائيلي كصراع وجود، وهو يفرض أيضاً بالتلازم معه صراعاً آخر لا يقل عنه أهمية، هو الصراع مع الدول «الرجعية» الخليجية والملكية، وقد اعتبرت تلك الحركة، أن من شأن ذلك الصراع أن يحسم الأمر في المنطقة إما للعلمانيين أو لتلك الأنظمة المبنية على خليط ديني عشائري قبلي عائلي.
عندما قامت حركة 16 تشرين الثاني 1970، طرحت شعار التنسيق بين الدول العربية، أو التضامن، كضرورة نابعة من أهمية حشد الطاقات العربية كلها في معركة الوجود مع إسرائيل، ولطالما أثبتت تلك الرؤية، مرحلياً، جدواها، وهو ما تأكد في حرب تشرين عام 1973، لكن لم تلبث «حليمة أن عادت إلى عادتها القديمة» حيث تعود الرياض إلى تغذية الحروب وإراقة الدماء في المنطقة بدءاً من تمويل حرب صدام حسين ضد إيران بين عامي 1980-1988، مرورا باستقدام ودفع تكاليف البوارج الأميركية لتدمير العراق بذريعة احتلال الأخير للكويت 1990-1991 وما تبقى تم الإجهاز عليه في عام 2003، برضى وتمويل خليجي أيضاً، مروراً بدعم التيارات الإسلامية التي عاثت فوضى في سورية بين عامي 1976-1983، ومصر التي انتهت بمقتل الرئيس أنور السادات عام 1981.
كان كل ذلك فيه لربما شيء من الضبابية، ولا يمكن الاستدلال عليه إلا بظلال الأحداث أو بالوثائق المسربة من هنا وهناك، إلا أن ما جرى في «الربيع العربي» لم يكن بحاجة إلى ظلال ولا وثائق، فالدلائل بينة ولا حاجة لها عندما يكون القائم بالفعل معترفا بها كما يقول القانون الروماني (him self uttered) والتي تعني «قالها بنفسه»، فمنذ صيف عام 2011 بدأت دول الخليج تصدر علنا إلينا عشرات آلاف من الجهاديين والآلاف من «المفتين» الجاهزين لكل أنواع الفتاوى التي تتطلبها الظروف، وكذلك سيل من الدولارات وفضائيات التحريض، وكل ذلك لتدمير حتى أصغر الخلايا، بل ولنسف جذورنا من أعماقها، ولطالما حققت نوايا التدمير جزءاً كبيراً من مراميها، إلا أن نسف الجذور كان عصيا ولا يزال، والهام في الموضوع هنا، هو أن تلك الهجمة المذهبية القبلية سوف تكون لها تداعيات هامة على نسيجنا المجتمعي بما فيه تحولات ستطرأ على منظور العديد من الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة فيه، والملموس منها حتى الآن، هو أن تلك الهجمة قد أدت إلى نمو شرائح واسعة في الداخل السوري كانت قد بدأت تتساءل: ما الذي يجمعنا بكيان ما انفك يقتل أبناءنا، كما لم يفعل أحد من قبل؟ ثم أصلاً ما الذي يجمع بين حضارة عريقة عمرها يقاس بآلاف السنين بثقافة البداوة التي لا تستطيع أصلاً أن تخرج عن أطرها التي رسمتها حدود الجغرافيا والتاريخ؟
الترجمة العملية لما سبق، تظهر في تنامي فكرة القومية السورية على حساب القومية العربية، ولربما كنا على موعد مع المزيد مما يتساوق مع الحالة السابقة في المراحل القريبة لا البعيدة، يبقى السؤال الهام بعد هذه المداخلة هو: ألم يكن موقف «الشباطيين» من تلك الأنظمة الخليجية والملكية موقفا صحيحا؟ أما الجواب الذي فرضته الأيام فهو بلى، كان صحيحا لأنه لم يكن نابعاً من أرضية سياسية، وإنما كان يستند إلى أرضية ثقافية فكربة مجتمعية تؤكد أن «الزيت لا يمكن خلطه بالماء».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن