ثقافة وفن

عندما يضع الخياط إزميله على قلبه يبدع ويتألق

| منير كيال

إذا كان لنا أن نتذكّر ما كانت عليه فنون الصناعة الخشبية في مجال كسوة قاعات القصور والدور الفارهة، فلابدّ لنا من التوقف مع الفنان المبدع أبو سليمان الخياط، لما كان له من دور في تطوير هذه الصنعة، ذلك أن التوقف مع هذه الصناعة لا يكتمل ما لم نلق بعض الأضواء على هذا المبدع الذي حفظ لنا ركناً أساسياً من صناعاتنا الخشبية الفنية التي تُعدّ سمة من سمات مدينة دمشق، فعلى يد الخياط عرفنا الأساليب والطرز القيصرية والعباسية والأيوبية والفاطمية، وقد أطلق الخياط هذه التسميات للتمييز بين هذا الأسلوب والأسلوب الآخر.

بدأ أبو سليمان عمله في مجال الأعمال الخشبية في مشغل والده في محلة القباقبية، ثم ما لبث أن أصبح على درجة عالية في مجال الحفر على الخشب مع ما يعرف باسم الخيط العربي الخشبي. ثم عمل بتنزيل (تطعيم) الصدف على الصناديق وذلك وفق أسلوب يعرف بالأسلوب المصري. فلما شعر الوالد بكفاءة ابنه محمد ومقدراته في عمله، أجاز له (سمح) فتح محل خاص أو ورشة خاصة به في محلّة باب شرقي. وأذكر أني قمت بزيارة الخياط بهذه الورشة أكثر من مرة في ذلك الحين.
ثم نقل أبو سليمان مكان ورشته إلى دار مردم بك بالسليمانية، ثم إلى بيت السيوفي بالقرب من مدرسة الملك الظاهر، وقد أجاد الخياط بهذه الورشة الحفر بما يعرف بالأسلوب القيصري، وذلك على الصناديق الخاصة بملابس العروس، كما قام بتنفيذ هذا الأسلوب على قطع موبيليا الأثاث المنزلي من أرائك وطاولات (طربيزات)… ونفّذ أعمالاً أخرى أطلق عليها الخياط تسميات خاصة لإمكان تمييز بعضها عن بعض بالأسلوب الفني الخاص بكل منها. ومن هذه التسميات ما عرف باسم القيصري وكذلك النمط العباسي والأيوبي، فضلاً عن النمط الفاطمي في أعمال تخريم الخشب وتفريغه.
وفي هذه الفترة حاول المهندس الفرنسي تجديد قصر العظم بدمشق، فتعرف على أبي سليمان، ثم طلب إليه القيام بأعمال حفر على الخشب وفق هذه الأنماط أو الأساليب. فاستجاب أبو سليمان إلى ذلك. وما كاد أبو سليمان يفرغ مما طلب إليه دولارية. حتى وقف دولارية أمام الخياط مذهولاً من براعته وخفة يده وتمكّنه في عمله. وبالتالي لم يصدق دولارية ما رأته عيناه من أعمال الخياط التي طلبها منه.
فلما قدم المهندس الفرنسي كافرو إلى دمشق، وهو المختص بالبحث عن الآثار والأعمال الشرقية، تعرف إلى الخياط وسأله عن المدرسة التي تخرّج فيها. أجابه الخياط إن هذه المدرسة هي مدرسة الأخشاب.
فتساءل كافرو عما إذا كان بدمشق مدرسة للأخشاب على المستوى الذي أبدع به الخياط.
ضحك أبو سليمان، وأمسك بقدّومه، ثم تناول قطعة من الخشب، ونقر عليها بقدومه وقال هذه القطعة من خشب الجوز، وعمرها عندما قطعت كذا من السنين.. ومضى على قطعها كذا من السنوات. فقال له كافرو: وكيف ذلك؟
فأجابه أبو سليمان، بهذا القدوم، وأشار إلى رأسه قائلاً، وبهذا العقل يمكن أن أعرف كل نوع من الخشب وعمره، وكم مضى على قطعه.. فالممارس غلب الفارس وضربة المعلم بألف ولو شلفها شلف!
وذات يوم سألت أبا سليمان:
كيف تتعامل مع قطعة الخشب، فقال لي: أتعامل مع قطعة الخشب كمخلوق حي، وعندما أضع الإزميل عليها وأطرق عليه بالقدوم، أعمل كما لو كنت أضع الإزميل على قلبي. وبعد أن أنجز أبو سليمان عمله بترميم محتويات قصر العظم، استدعته الحكومة اللبنانية، لترميم قصر بيت الدين الأثري، كما طلب إليه الزعيم اللبناني هنري فرعون ترميم قصره في لبنان.
وكان خلال ذلك يتنقل من ورشة إلى أخرى ويساعده في ذلك أكبر أبنائه منير وإخوته عبد الوهاب وبشير وعلي.
وإذا كانت أعمال الحفر لا يجوز الخلط فيها بين الأساليب أو الأنماط الفنية، كأن يدخل الصانع الحشوة من الأسلوب العباسي على عرق محفور بالأسلوب الأيوبي أو المناغل القيصرية على هذه الحشوة، لأن ذلك في عرف المصلحة يعتبر مبتدئاً أي لا يسير على قاعدة، ويخرج عن الفن الأصيل، لكونه مخالفاً لأصول الصنعة. فإن أبا سليمان أبدع أيما إبداع في تزيين ندوة مجلس الشعب بدمشق، وقصر لجنة مياه عين الفيجة بدمشق بل أيضاً القاعة الشامية بالمتحف الوطني، وذلك باستخدام جميع الأنماط بآن واحد مع الخيط العربي.
أما الدهان المعروف بالعجمي، فقد مارس الخياط هذا الدهان على يد المعلم أمين الدهان، فأجازه الخياط بذلك. وقد استطاع الخياط بمهارته الوصول إلى سر تركيب هذا الدهان النباتي منه والترابي. وقام بتطبيق ذلك على الحلقة الخشبية بقصر بيت الدين، ومن الجدير بالذكر أن أصل هذه الحلقة الخشبية يعود إلى دار السقاميني الكائن بدخلة العطار بحي القيمرية بدمشق ولما كانت أخشاب هذه الحلقة غير كافية لمتطلبات قصر بيت الدين، فقد استطاع الخياط إنجاز مساحة ما يزيد على (35) متراً مربعاً من نسيج تلك الحلقة سقفاً وجدراناً، وقد كانت هذه المساحة على درجة من الإتقان ما أعجز الخبراء عن كشف الأماكن المزيدة إلى تلك الحلقة.
فضلاً عن ذلك فقد قام الخياط بتركيب الحلقات الخشبية لقصر لجنة مياه عين الفيجة بدمشق، وقد نلقها من بيت كريّم بحي العقيبة بدمشق. وهذه الحلقة لقصر مياه عين الفيجة كان معظمها من إبداع الخياط.
وكان من أعماله المبدعة قيامه بأعمال كسوة قاعة مجلس الشعب كما سبق أن أشرنا، لكن خاتمة أعماله مع أولاده هي ما تركه لنا من إبداعات الحلقة الخشبية للقاعة الشامية بالمتحف الوطني بدمشق، وقد قدم أخشابها جميل مردم بك، وقد كانت أخشاب هذه الحلقة مهشمة، وكان بعضها مفقوداً بسبب ما أصابها من قصف القوات الفرنسية، فقام الخياط بإصلاح ما تهشم منها وصنع ما فقد أو احترق منها ثم قام بتجديد دهانها، فكانت آية في الإبداع والكمال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن