سورية

ما وراء التوتر الأميركي الإسرائيلي مع إيران؟

| عبد المنعم علي عيسى

لم يكن المشهد العراقي يحتاج إلى ما شهده مؤخراً عبر التصادم ما بين نائب الرئيس العراقي نوري المالكي وبين رئيس الوزراء حيدر العبادي في 29 آب المنصرم، لكي يقال عنه بأنه شديد التعقيد، فهو كذالك بالتأكيد دون حاجة إلى إضافات، وما جرى كان يمثل ذروة لصراع محتدم ولم يكن بداية له، أما خروجه إلى السطح فهو يهدف إلى خلق حالة استقطاب داخلي قصوى كانت ترتيباتها قد بدأت مع زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن في آذار الماضي، ومن ثم زيارة مقتدى الصدر إلى الرياض ولقاؤه بهذا الأخير في آب الماضي تحت شعار «استعادة العراق إلى الحضن العربي»، على الرغم من الدعم السعودي وكذا الإماراتي لانفصال كردستان عنه.
النسخة السورية لذلك المسار، أي محاصرة الدور الإيراني، فهي تتمثل بالتوكيل الذي منحه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لموسكو علنا وتفويضها بإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، وهو ما لا يجب فهمه على أنه ناجم عن حالة توافق روسية أميركية ولا حتى في سورية لوحدها، فالتوتر ما بين البلدين هو السمة البارزة للعلاقة ما بينهما ولسوف تتالى فصوله تباعا في إطار ما يمكن تسميته «روسيا غيت» التي كان آخر فصولها قرار واشنطن 2 أيلول الجاري إغلاق القنصلية الروسية في سان فرنسيسكو وإعطاء موظفيها الـ450 مهلة 72 ساعة لمغادرة البلاد، وإنما يجب أن يفهم على أنه يندرج في إطار رؤيا أميركية ترى واشنطن من خلالها أن إطلاق يد موسكو في سورية هو أمر من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الدور الإيراني فيها، تمهيدا لتفكيكه أو إزالته إن أمكن، ما يتناسب مع المصلحة الإسرائيلية العليا، وكذلك السعودية، وما التصعيد الإسرائيلي الأخير إلا جزء من ذلك المخطط.
نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية مؤخراً تقريرا جاء فيه أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان قد ألمح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشية لقائه به في 20 آب الماضي، عن إمكان أن تقدم تل أبيب على قصف القصر الجمهوري بدمشق إذا ما استمر تزايد النفوذ الإيراني في سورية، وتتابع الصحيفة أن نتنياهو كان قد نصح بوتين أيضاً بأن يأخذ التهديد الإسرائيلي على محمل الجد، قبيل أن يذهب مسؤول إسرائيلي آخر لم يذكر اسمه، إلى تكرار ما نقلته الصحيفة الإسرائيلية سابقة الذكر في 30 من آب الماضي، وعلى الرغم من أن موسكو كانت قد تعاملت مع ذلك التهديد بشكل جدي، عبر ما ظهر في الإعلام عن تأسيس نظام دفاعي روسي سوري مشترك، وفي أعقابه كان قائد القوات الروسية في سورية أعلن بأنه سوف يتم إسقاط أي هدف معاد في دائرة قطرها 400 كم، وإذا ما افترضنا أن الصاروخ الذي سيقوم بتلك المهمة سينطلق من حميميم (30 كم جنوب اللاذقية) فإن المدى السابق الذكر رسالة واضحة تؤكد أن الأهداف ستكون في مرمى الصواريخ بمجرد دخولها الأجواء السورية من الجنوب من الأردن أو من الغرب من لبنان.
على الرغم من ذلك، فإن قيام تل أبيب بتلك المغامرة يعتبر حماقة يصعب تصديقها لعدة أسباب أبرزها أن المناخات الدولية المحيطة بإسرائيل تبدو في أكثر حالاتها صعوبة منذ قيام الكيان الإسرائيلي في عام 1948، فالغرب والأميركيون، ينظرون بعين القلق والريبة للنوايا الإسرائيلية المتعلقة بإحلال السلام في المنطقة عبر إصرارها على متابعة بناء المستوطنات وعدم جديتها في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى تصادم ما بين المصلحة الغربية والأميركية، التي ترى في إحلال السلام في المنطقة مصلحة عليا لها وبين المصلحة الإسرائيلية التي ترى أن إحلال السلام سيؤدي إلى انكماش الكيان الذي قام أساساً على الحرب، ناهيك عن أن للسلام أثماناً لا بد من دفعها، ولا تبدو تل أبيب جاهزة لدفعها الآن، هذا بالإضافة إلى أن تلك العملية سوف تلقى ردود أفعال لا طاقة لإسرائيل بتحملها مضافا إليها توتر في العلاقة مع الروس لا تبدو محمودة في ظل حالة الاحتياج الإسرائيلية القصوى للدور الروسي في سورية، أما الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدفع بنتنياهو لارتكاب حماقة من هذا النوع فهو اقتراب إصدار المحكمة الجنائية الإسرائيلية لقرار يدينه بقضايا فساد ورشوة من شأنها أن تؤدي إلى إنهاء مستقبله السياسي ولذا فقد يفكر بالهروب إلى الأمام، لكن على الرغم من ذلك فإن من الصعب على نتنياهو الحصول على توافق داخلي يسمح بالقيام بتلك العملية حتى ولو كان على مستوى الحكومة المصغرة أو ما يطلق عليها «منتدى الثمانية»
قبيل ثلاثة أشهر من انتهاء ولاية باراك أوباما الثانية، بدا التوتر طاغيا على العلاقة الأميركية الإيرانية ثم استمر ذلك خلال الأشهر الثلاثة الأولى من ولاية دونالد ترامب الأولى وفي هذه الأخيرة وصل إلى حدود غير مسبوقة عبر التلميح بإمكان أن تقوم واشنطن بإلغاء اتفاق فيينا الموقعة في 14 تموز 2015 على الرغم من أن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقول في مجملها: إن ما من شيء يمكن أن يثير الشبهة في إطار سعي طهران لامتلاك سلاح نووي ما يؤكد أن الخلاف القائم حتى ما قبل اتفاق فيينا ولا يزال، لم يكن على المسائل التقنية من نوع تخصيب اليورانيوم أو سواه فتلك مسائل كانت محسومة منذ زمن، أما الخلاف الذي جعل المفاوضات تستمر لأكثر من عشر سنين والذي أدى مؤخراً إلى تصعيد بدا وكأنه غير قابل للتهدئة، فهو يخص الدور الإقليمي الإيراني أو الثقل الذي يجب أن تحظى به إيران تبعا لقدراتها.
من الواضح أن طهران ليست راضية بما عرض عليها حتى الآن، وبالتأكيد قد عرض عليها الكثير، في حين أن نقطة الخلاف التي تبدو غير قابلة للحل فهي تتعلق برسم التخوم ما بين التواجد الإيراني ومناطق التواجد الإسرائيلي، فكلا القوتين تنظر إلى علاقتها مع الأخرى على أنها ملغية لها، ولا يمكن التعايش معها، أما خروج ذلك التوتر إلى الفضاءات التي خرج إليها مؤخراً، فهو ناجم عن أن واشنطن وتل أبيب تريان أن طهران باتت تمتلك جميع المقومات السياسية والميدانية التي تمكنها من فرض الثقل أو الدور الذي تريده بفعل الأمر الواقع وعندما يصبح الأمر كذلك فإن التفاوض حينها يصبح على رسم الأطر لذلك الدور لا على رسم التخوم التي يتوجب عليه ألا يتجاوزها.
من المؤكد أن تل أبيب لا تخشى بالدرجة الأولى القدرات العسكرية الإيرانية ولا حتى برنامجها الصاروخي بقدر ما تخشى تقلص الفارق الحضاري ما بينها وبين طهران فامتلاك هذي الأخيرة للتكنولوجيا النووية من شأنه أن تكون له انعكاسات هامة على العقلية الإيرانية وكذا على مختلف المجالات ودخول العصر النووي كفيل باللحاق بركب الآخرين، هذا التقليص تنظر إليه إسرائيل على أنه يمثل تهديدا حضاريا لها فالتفوق الذي كانت تتمتع به لم يعد بالإمكان المحافظة عليه إلا بوجود دعم أميركي مطلق، أو هو لا يحبس أي تكنولوجيا جديدة عنها، فكيف الأمر إذا ما كانت القيادة التي تدير تلك القدرات تتمتع بحنكة سياسية بارزة وأعصاب فولاذية قل نظيرها، فإن الخطر عندها يصبح مضاعفا واخطر مراحله هي أن تتهيأ لقوة إستراتيجية ما قيادة قادرة على أن تديرها وهي تستوعب جيداً قدراتها والحدود التي يمكن أن تصل إليها لتجييرها، بالإضافة إلى استيعاب حقائق التاريخ والجغرافيا في تحقيق مكاسب من شأنها أن تزيدها قوة ومناعة.
سقطت معركة تفتيت المنطقة ولربما يتضح ذلك في التصريحات الأميركية والفرنسية والسعودية التي أشارت إلى قبولها جميعها ببقاء الرئيس بشار الأسد، فالمشروع أخفق في أهم مرتكزاته وهو في تفتيت سورية أولاً والانطلاق منه لتفتيت المنطقة تماما كما كانت عملية تفتيت يوغسلافيا مدخلا لتفتيت باقي أوروبا الشرقية في عام 1989 فصاعداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن