ثقافة وفن

عن القبر وسرّ القبر!!

| إسماعيل مروة 

لم يدخله أحد من الأحياء يوماً وعاد ليخبرنا بما حدث ويحدث فيه، ولم يستطع أحدنا أن يكتشف سرّه، وربما كان السر الوحيد الذي تم اكتشافه، هو ما يتم تناوله أو تداوله من نكت حول أحدهم استيقظ من غيبوبته في القبر ففر الناس من حوله هاربين، أو عن أحدهم عاد إليه وعيه فعاش وعُمّر طويلاً في الحياة، ورحل كثير من أحبابه ومشيعيه قبل أن يرحل هو نهائياً! وسواء كانت هذه النكت التي تروى صحيحة أم لم تكن كذلك، وسواء رواها الوعاظ في سياق أحاديثهم عن القبر وأهواله وما يسببه، أم رواها الظرفاء الذين وجدوا في روايتها مناسبة للسخرية من الموت، فإن هذه القصص هي الوحيدة التي تقترب من يقين المشاهدة أو الرواية، ومع أن أحداً لم يعد من قبره ليحدثنا عن أجوائه، وعمّ قابله، من أفراح أو أهوال، إلا أننا يتملكنا العجب، ونحن نرى، وعلى وجه اليقين لا التخمين، أن عالم القبور هو العالم الذي يناله أكبر وصف من الكتاب والوعّاظ والعامة على السواء، بل إننا إذا استعرضنا الكتب في المكتبة العربية وجدنا كماً مهولاً مفزعاً من الكتب التي تتناول القبر، وهذا الكم مفزع حقاً، وأنا شخصياً، على ضعف معرفتي واطلاعي جمعت ما يزيد على ثلاثين كتاباً عن القبر وأهواله وعالمه، وبالمعاينة والمقارنة، فإن هذه الكتب ذات قصص متشابهة، وكان من الممكن أن تكون كتاباً واحداً يكفي لوعظ الإنسان، وزرع الرهبة والخشية والخوف في روحه التائقة إلى الصفح والغفران، ولكن جاء اللاحق فسرق أو شرح أو ألف أو زاد ليخرج علينا بعالم فيه الكثير من نسج المخيلة والقلم!
وقفت مع عدد كبير من العلماء ورجال الدين، وتحاورنا حول عالم نفسه وروحه، فلم أجد لديه كلمة واحدة مفيدة، وعندما أتحدث معه عن العالم الآخر أجده منطلق الأسارير واللسان والتعابير، ويمكن أن يحدثني ساعات غير محدودة عن عالم القبر والآخرة، وهناك ليس بإمكاني أن أعترض أو أصحح! فهل يعقل أن يعرف أحدنا عن عالم لم يزره أكثر من معرفته بعالم يحمله ويعيش معه وهو ذاته؟
هل يعقل أن يصور لنا أحدهم روائح القبور، ويعجز عن اكتشاف رائحة ذاته التي تتفوق بسوئها على كل رائحة يمكن أن تكون؟
أيمكن أن يعلم أحدهم عن عالم مخفي غير مرئي أكثر من معرفته عن عالم يحيا به؟
رجل الدين والعالم..
الأكاديمي والجاهل..
عامة الناس..
مستمعو الوعظ…
جميعهم يقول ويردد أمام القبر، وهو يرسل فقيده، تراه يحذره ليجيب بشكل جيد عن أسئلة المستجوبين في القبر، ويكرر فوق رأسه طويلاً، يحاول ويحاول، لأن الميت حسب رأيه يسمع ويرى ويشعر، في الوقت الذي لا يتوجه بأي من هذه الكلمات إلى ذاته!
ما من أحد منا لم يحضر جنازة أو جنازاً، ما من أحد منا لم يفقد أحد أحبته ووجد نفسه مراقباً ومتابعاً، فهذا يأتي بثوب أبيض وعطر المسك ليلقن الميت، وذاك يأتي بعباءة سوداء ولباس مذهب ليودع الراحل، وكل واحد منهم يقول، وكل واحد منا يردد، والفرق الوحيد أن الذي يقول يقول بشكل وظيفي آلي يخلو من أي عاطفة من العواطف، يؤدي المراد منه بحكم موقعه على عجل ويرحل، والمدة تطول حسب أهمية المتوفى، فإن كان الراحل غنياً أو ذا منصب أو مكانة طال المكوث على قبره أكثر من اللازم لتكون المكافأة أكبر ممن بقي من أسرته، لأنهم يظنون أن هذا الكلام فوق القبر يمكن أن يخفف عنه أهوال القبر التي سمعوا عنها، وقد يتبرع السادة الذين يلقنونه أسلحته التي يواجه بها الأهوال بإسباغ كل صفات الأخلاق والمروءة عليه ليقدر على مواجهة الأهوال أو عصة القبر! وإن كان المتوفى صغير الشأن في نظرهم، تلوا على رأسه كلماتهم على عجل ورحلوا، متذرعين بأنه توفي، وبأن أمره صار إلى الله وهو أدرى به!
أما الصنف الثاني فهم الناس الذين يرددون وراءهم تلك الأدعية والوصايا، وهؤلاء ينقسمون إلى صنوف لا حصر لها، ابتداء من الأسرة التي قد تحمل عن الراحل مواصفات لا يعرفها أحد، وهم يدركون أن كل هذه الأدعية لا قيمة لها، والأحبة الذين يرون المتوفى أعلى من كل ما يقوم المرددون بقراءته فوق روحه، والذين يحملون عنه ذكريات مؤلمة يسخرون من كل ما يقال لأنهم على دراية بأن الراحل- إن كان ما سيستعرض له حقيقة- لن تكفيه أدعية الكون.
قالوا: عند الموت والقبر يتساوى الناس.. نعم يتساوون، ولكن هل نجعلهم نحن متساوين؟
إن كانوا من ذوي المكانة في الحياة، وإن كانوا غير مفيدين فسيتابع الناس تمييزهم، ويسبغون عليهم صفات ليست في الأنبياء والرسل! فكم أقسم أحدهم بصلاح الراحل، وليس بصالح هو، وكم حلفوا بأنه كان فاعل خير، ولم يفعل خيراً في يوم، ولم يرعَ ذمة أو حرمة، فماذا عن القبر وسر القبر؟ قد أذهب إلى ما ذهب إليه العظيم دستوفسكي في إحدى حكاياته، من أن الموت والقبر تتوزع مشاعر المعزين ومستقبلي العزاء ولكنها تجتمع في فكرة واحدة هي التأكد من أنه مات ولن يراه أحدهم مرة أخرى، فمن يعان من ظلمه يتأكد من أن واحداً من ظالميه قد غادر، والمتأذي منه ليتأكد من أن المؤذي قد غادر، والمحبوب ليتأكد من أن من يحبه قد غادر، والذي عانى من خيانته ليتأكد من أن مصدراً من مصادر الخيانة تجاهه قد غادر! ذلك لأن الأدعية والتعازي والصلوات لن تغير، ليس في مصيره الذي نعرفه أكثر من معرفتنا لأنفسنا كما نتوهم! وكل ما في الأمر مراسم مفروضة على البيئة، أما داخل القبر، وهنا السر، فمن يحبه يتمنى له برزخاً من السعادة، وكارهه قد يشفق عليه مما سيحل به! وفي كل الأحوال، فإن الحقيقة أنه تبقى الأحاديث والذكر إلى حين وبعد الحين تبدأ اللعنات أو الرحمات تنهال على الراحل، الذي لا يعنيه في الحقيقة أي شيء لأن الروح التي هي من أمر خالقها غادرت لتنزرع في شيء آخر وبقي الجسد الذي لا يشعر بكل ما يحدث… أليس من الأجدى لأحدنا أن يعرف نفسه قبل أن يعرف هذه الأهوال؟ لو عرف أحدنا نفسه وعرف غيره فهل ستشكل هذه القضية جدلية ترافقنا؟
نعم جدلية.. ألم نجد من لا يحمل بذرة إيمانية يتوقف عند هذه الطقوس مرغماً مقلداً ومتابعاً؟ ألم نجد من قضى حياته منكراً للدين وملحداً نمشي جنازته إلى كنيسة أو جامع لاستمطار الرحمات، فأفسد محبوه عليه كل حياته وفكره، وجعلوه كأي شخصي أمضى حياته ولا همّ له ولا رسالة؟
وفوق ذلك، لو قدر لأحدنا أن يجاوز الأعمار الطبيعية فإنه سيجد أن عدداً لا يستهان به عمن استمطرنا لهم الرحمات، وطلبنا المغفرة، وخاصة إن كان من الوجهاء تحوّل قبره إلى قبة ومزار يأتي الناس للتبرك به، وربما ليساعد النساء على الحمل، والرجال على توالي المناصب والمواقع!
هل يعرف أحدنا سرّ القبر؟ لا أظن، فلو عرفه الواحد منا، وأدرك وآمن بما يتم تناقله ما بنى الجدران والقبب على ميت يحبه، لأن ذلك يحدد عالمه، ويجعله محصوراً خاضعاً للرقيب ومحاسبته، ومن أقصى جنوب سورية إلى شمالها وساحلها قبب ومزارات تكفي لإقامة عشرات الشرائع!
أعود لأقول: المشكلة الحقيقية بأننا لا نعرف أنفسنا ولا نعرف الآخر، فلو عرفنا لما تلونا ما تلوناه بهذه الطرائق الآلية، ولما بنينا قبباً لأناس لو التقينا من عاشرهم عن قرب لعرفنا فيهم من النقائص الذميمة التي لا يرتكبها الجهلة من الناس، وعليها يستحقون اللعن والطرد وما يزيد على ذلك.
لكننا نعرف من الغيب أضعاف ما نعرف عن حياتنا وأنفسنا.
وما أدراك ما القبر وما سر القبر!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن