قضايا وآراء

الشعوب سلعة تجارية عند أميركا «الديمقراطية»!

| يوسف جاد الحق

البشر نوعان في «أدبيات» السياسة الأميركية، الأول يعني أميركا ودول أوروبا الغربية وإسرائيل، والثاني يعني بقية البشرية على ظهر البسيطة.
الأول هو «السيد المتميز»، هو التاجر الحصيف، المتعامل بهذه المهنة، بتفاوتات مختلفة بين دولة وأخرى، وفق معايير ومكاييل ومقاييس متباينة لكل حالة بعينها.
والثاني فهو السلعة التجارية، أي مادتها، وهذه تمثل عندهم فيما عرّفوه هم بالعالم الثالث، ولاسيما شعوب إفريقية وآسيا وأميركا اللاتينية.
باختصار، وبلغة التجارة السائدة، الشعوب درجة أولى ودرجة ثانية، أو صنف أول وصنف ثانٍ، وكأي تجارة لها حساباتها التي تقوم على مبدأي الربح والخسارة.
درجت أميركا على هذا منذ نشأتها، غير أن هذه النظرة ترسخت وتعزّزت منذ الحرب العالمية الثانية واستمرت هكذا حتى يومنا هذا، ولربما توغل السياسة الأميركية في هذا المنحى، في هذا الزمن الذي أصبح على قمة الهرم السياسي فيه رجل مثل رئيسها الحالي تاجر العقارات دونالد ترامب!
وفق هذه النظرية، أو لنقل الإيديولوجية التي تعتمدها أميركا، ولأن البشر هم المادة الخام لهذه التجارة، فلابد من التعامل معهم وبهم على هذا الأساس، كيف تحصل على هذه المادة الخام؟ هذا ما كان يقتضي منها جهداً فاعلاً، وفكراً نشطاً لتوفيرها، فابتكرت إثر نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام هيئات ومحافل دولية تدعو إلى تعميم سلام عالمي، خالٍ من الحروب، نظرية تقول بضرورة وجود عدو حتى لو لم يكن هناك وجود لعدو حقيقي فإن عليها إيجاده واصطناعه.
الضرورة الملجئة لذلك هي توفير المادة الخام لتشغيل مصانعها ومعاملها، المنتجة للسلاح والطاقة والغذاء والدواء وغيرها، إضافة إلى بيوتاتها المالية والاقتصادية وتشغيل اليد العاملة! وحشد ذلك كله لمواجهة ذلك العدو المفترض والمتخيّل، وما عليها عندئذ، لتحقيق هذا الغرض، سوى توجيه تهمة ما، لا وجود لها أصلاً، لشعب أو دولة ما، ولديها من وسائل الإعلام الكاذب المفتري والمضلل ما يكفل لها الترويج للمسألة على النحو الذي تريد، كما أن لها في المحافل الدولية، آنفة الذكر، من الهيمنة والنفوذ ما يلبي رغباتها ويصدق على ادعاءاتها وتوجهاتها العدوانية الاستغلالية.
لقد أعلنت أميركا دائماً عن هذا المبدأ «ضرورة وجود عدو مفترض»، ومن هنا وجد العالم أميركا هذه، تختلق المشاكل وتصطنع الحروب بين بلد وبلد، بين قوم وقوم، وحتى بين الشعب الواحد وداخل الوطن الواحد، ولديها دائماً القدرة على إيجاد الوسائل والأدوات والدعاوى والإشاعات والأكاذيب المفضية إلى تهيئة الأرض والمناخ والأجواء للوصول إلى مبتغاها، ومن ثم تقع المذابح والمجازر ويحل الدمار بكل أنواعه في ذلك البلد المستهدف، وشعبه المرشح لاتخاذه مادة خام لصناعاتها الشيطانية من جهة، ولتبرير تدخلها على نحو أو آخر، بوصفها شرطي العالم الذي فرض من نفسه حكماً أرسلته العناية الإلهية، مؤدباً لذلك الشعب أو تلك الدولة المعنية، من جهة ثانية، ناهيك عن سعيها الدؤوب إلى التحكم في سياسته واقتصاده، ونهب ثرواته من جهة ثالثة.
ولأنها عملية تجارية بحت، لدى أميركا، فلن يثنيها عن ذلك موت الأعداد الهائلة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ بأكثر طرق الموت ووسائله بشاعة، كما لا تتورع عن تدمير أوابد ذلك البلد المقصود وآثاره التاريخية، بحيث يغدو ذلك المكان المستهدف في النهاية، وكأنه لم تعرف له ثقافة أو حضارة أو تاريخ في يوم من الأيام، حتى قبل ظهور أميركا نفسها إلى الوجود.
بل إن أميركا «راعية حقوق الإنسان وعميدة الديمقراطية والعالم الحر!» تذهب إلى أبعد من ذلك في سبيل الحفاظ على تجارتها البائسة هذه إلى اتخاذ البشر «قطع غيار» في الأوساط الصحية للنخبة وكبار الأثرياء، في أسواق تعرفها هي وتغض الطرف عما يجري فيها.
والأدهى من ذلك« وبعد إقدامها على هذه الجرائم الكبرى بحق الإنسانية» استكمالاً لمخططها التجاري الهادف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح، تسعى إلى ما تسميه «إعادة تعمير» ذلك البلد الذي أحلت به الخراب والدمار، تحت غطاء كاذب أيضاً بدعاوى الإنسانية، فتأتي بشركاتها ومؤسساتها ومقاوليها ليكون لها القسط الأكبر من هذه العملية التي تفرض القيام بتمويلها على جهات من هنا وهناك، كدول الخليج العربي مثلاً، وهكذا فهي الرابحة في حالتي الدمار والإعمار، على حد سواء، وعلى حساب الآخرين دائماً.
لقد شهد العالم في العقود السبعة الماضية حروباً ضارية في العديد من دوله، ويمكننا القول إنه ولا حرباً واحدة منها إلا وكان لأميركا دور فيها على نحو أو آخر، وكان لبلادنا العربية أوفر نصيب منها، ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأشد وسائلها أذى لكثير من دول العالم وشعوبه، وهي سياسة الحصار والعقوبات التي أباحت لنفسها انتهاجها حيال من لا ترضى عن سياسته الاستقلالية، ومن يرفض الانصياع لرغباتها وتوجهاتها الاستعلائية والاستغلالية، ولعل الحالة السورية أبرز مثال على ذلك، لا لشيء سوى مواقفها المبدئية وثوابتها، وبموقفها من المسألة الفلسطينية، ومعاداتها من ثم لإسرائيل، وتمسكها بضرورة العمل المقاوم من أجل تحريرها كاملة وعودة الحق الفلسطيني لأصحابه.
إن أميركا لا تحجم عن فرض سياسة العقوبات العجيبة هذه، حتى على دول تضاهيها قوة ومكانة دولية، مثل روسيا والصين، وما ندري أن أحداً فوّض أميركا بالوصاية على هذا العالم بأسره.
إذاً فالشعوب، في عرف أميركا ليست أكثر من «مادة خام» لصناعاتها وتجاراتها البعيدة عن أي نازع إنساني تدعيه في هذا العصر، وعن أي مزاعم تتشدق بها عن الديمقراطية والحرية وما إليها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن