ثقافة وفن

نقد الردة عن المشروع القومي مقاربة جذرية للوحدة والعروبة والنهضة … الحكم العثماني بنى المجتمع الإسلامي من عمارات طائفية متعددة الملل لخدمة السياسة

| سوسن صيداوي

تؤمن لائحة القومي العربي بوحدة المنهج والبرنامج القوميين الجذريين. فهي تتعامل مع المناظير الأيديولوجية كأدوات تحليلية ومعرفية قابلة للتجاوز والتطوير والإغناء، لكنها تتعامل في الآن عينه مع الثوابت السياسية القومية كخطوط حمراء، وتتعامل مع أهداف المشروع القومي، الوحدة والتحرير والنهضة، كأهداف لا يُعلى عليها في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا. وما بين المنظور الأيديولوجي المرن من جهة، والمشروع السياسي الذي نرى أن بقاء أمتنا ووجودها بات يعتمد على تحقيقه من جهة أخرى، تنشأ مجموعة من الأسئلة النظرية التي يفرض علينا الواقع التصدي لها، وعلى رأسها رؤيتنا القومية الجذرية الخاصة لمفاهيم مثل الأمة والقومية والوحدة، للحداثة والنهضة، لدولة التجزئة العربية في زمن التفكيك و«الربيع العربي»، للأمازيغ والعرب المسيحيين والعلاقة بين العروبة والإسلام، وللغة العربية.

تلك هي بعض القضايا التي سعت مجلة «طلقة تنوير»، المجلة الفكرية الثقافية الشهرية التي يقوم هذا الكتاب باستخلاص بعض موادها المحورية التي وضعها عدد من كتّاب المجلة وضيوفها بعد تصنيفها في محاور وربطها بحسب الكاتب والموضوع، وهم: إبراهيم علوش، إبراهيم حرشاوي، أسامة الصحراوي، ناجي علوش، بشار شخاترة، نور شبيطة، السيد شبل، واصل البدور، صالح بدروشي، معاوية موسى، توفيق شومر، علي بابل، جميل ناجي، سعيد الدارودي. ولسوف يلاحظ القارئ وحدة المنهج والتوجه في هذه المواد، على الرغم من تناولها من خلال موشور من المناظير الإيديولوجية، القومية أساساً، ولو أنها قاربت موضوعها من شواطئ مختلفة، للوصول إلى محطة أخيرة واحدة، هي تجسيد المشروع القومي الجذري فكرياً ونظرياً والسعي للإجابة عن أسئلته بصيغ عميقة ومتماسكة، من عدد كبير نسبياً من الكتاب الذين يمثلون تتمة فكرية ونظرية لسلسلة أدبيات «لائحة القومي العربي»، مثل «من فكرنا القومي الجذري»، و«مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي»، وغيرها.

هل لا تزال الوحدة العربية
حلاً صالحاً؟
أشار الكاتب صالح بدروشي في هذا الفصل إلى أن الوحدة هي بالطبع أحد المرتكزات التي يقوم عليها بقاء المواطن العربي وهي من أهداف المشروع القومي العربي؛ الوحدة والتحرير والنهضة، وبأن هذه الأهداف يغذي بعضها بعضاً ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً في علاقة لا تنفصل، مشدداً على فكرة تقتضي بأنه وبالرغم من الأخطاء إلا أن الأنظمة العربية الوطنية التي انتزعت استقلالها بالقوة، خاضت صراعاً مريراً وغير متكافئ مع الاستعمار الذي لم يتوقف عن إخضاعها بشتى الوسائل، حتى أضعفها وأخرج معظمها من دائرة الفعل وأوصل أنظمتها إلى الحال التي هي عليه اليوم، متابعاً: «إن النتيجة التي لا يختلف عليها اثنان هي أننا لم نفلح نحن القوميين العرب طوال أكثر من نصف قرن بمختلف مشاربنا (بعث سوري، بعث عراقي، ناصريون، ماركسيون، عروبيون، لجان ثورية……..) في تحقيق أي من الأهداف التي من أجلها انطلق المشروع القومي العربي». مضيفاً: «إن انطلاق المشروع القومي سيكون خير حافز لكل الوطنيين لكيلا يتراجعوا أو يضعفوا أمام الهجمة الشرسة التي يواجهونها والسبيل الوحيد للخلاص وتكتّلهم داخل حركة شعبية عربية منظمة لا تتمسك بأيديولوجيا مغلقة بل في إطار عريض تحكمه المرونة الأيديولوجية ضمن حدود الثوابت القومية، ملتزماً بأهداف العمل القومي: الوحدة، التحرير والنهضة».

في التجزئة والدولة القطرية
ذكر الكاتب إبراهيم علوش في جزئية من هذا الفصل وتحت عنوان: «عندما يتحول القوميون إلى دعاة للدولة القطرية: محمد جابر الأنصاري نموذجاً، هل يجب على القوميين أن يتبنوا دولة التجزئة في زمن التفكيك؟، بأن د. محمد جابر الأنصاري في كتابه «مراجعات في الفكر القومي» يقول «إن الفكر القومي يجب أن يطور نفسه باتجاه: التركيز على تنمية دولة التجزئة، والسعي لتأسيس مجتمع مدني في كل منها، وتبني منهج «الوحدة الجغرافية الطبيعية» على نمط «مجلس التعاون الخليجي»، أو «الوحدة المغاربية». متحدثاً الكاتب علوش في مكان آخر «ليس من قبيل المصادفة أن قوس (الربيع العربي) تفجّر على شكل دماء ونزعات تفكيكية، أكثر ما تفجّر في الدول العربية التي نالت استقلالها عبر حركة تحرر وطني، لا كمنحة مشروطة بالتبعية من الاستعمار، أو في الدول العربية التي تمت فيها الإطاحة بالنظام الذي خلّفه الاستعمار، أو التي وصل إلى حكمها طرف عروبي التوجه، فترك أثره فيها ولو حاد عن جادة النهج العروبي بعدها». مضيفاً إن غول التفكيك الذي تطلّب إطلاقه تحطيم مؤسسة الدولة، لا إسقاط نظامها فحسب، في الدول العربية الوطنية ذات النزعة الاستقلالية، بات يطرق اليوم أبواب كل الدول العربية، حتى الرجعية والتابعة منها، ومنها مملكة الـسعود نفسها. أما النظام الإسلاموي في السودان، فقد أثبت أنه مستعد وقادر على تفكيك نفسه بنفسه.

في الحداثة والنهضة العربية
في أجزاء من هذا الفصل الخامس، كتب توفيق شومر وتحت عنوان (لماذا لم ننهض؟ سؤال لابد من الإجابة عنه….) مفتتحا بطرح العديد من الأسئلة بحثا عن الإجابة في العيب بأننا لم نصل إلى النهضة المنشودة. هل العيب فينا؟ أم في ثقافتنا؟، أو في لغتنا؟. وجاء جوابه حول هذه العيوب بالنفي وخاصة أن تاريخنا يدلل على مدى قدرتنا على التأقلم والتطور ويؤشر على دورنا المحوري في الإنتاج المعرفي والعلمي عبر التاريخ منذ أكثر من خمسة آلاف عام، لكنه يعود ويتساءل عن حالة الجمود والتراجع التي نعيشها منذ خمسة قرون مرت على الاحتلال العثماني، ولماذا فشلت محاولاتنا للنهضة والحداثة؟. موضحاً الكاتب في مكان آخر مفهوم الحداثة «الحداثة لا تعني التحديث فحسب، ولا تعني استخدام وسائل تكنولوجية متقدمة فقط، إنما تعني بنية معرفية متميزة يجب استيعابها لكي نصل إلى الحداثة». مشيراً أن هذا التعريف ليس له أي قيمة ما لم تتحول قيم الحداثة من تقدير للعلم والبعد عن الميتافيزيقا، إلى أن تكون قيماً اجتماعية عامة يقر بها المجتمع بأغلبية أفراده. مضيفاً إن أحد العوامل في عدم تحقيقنا للنهضة هو التدخل الخارجي قائلا «فإضافة إلى استكانة الحكام للفكر الغيبي كوسيلة أساسية للسيطرة على الشعب، فإن المستعمر استخدم أيضاً الأسلوب عينه، فدعم الجماعات الغيبية والظلامية في محاولة منه لمنع التنويريين من الوصول إلى الشعوب». مشيراً إلى أن المجتمع العربي كان قد مر بمراحل من التطور والنهضة وبالأخص الدول التي تمكنت من الانعتاق من الاستعمار.
العرب المسيحيون

قال المفكر الإمام محمد مهدي شمس الدين «ليس في بلادنا أقليات، بل هنالك أكثريتان، إحداهما عربية تضم غير المسلمين، والأخرى مسلمة تضم غير العرب». وفي هذا الفصل السابع من الكتاب تناول محور العرب المسيحيين، للرد على مقولة «الأقليات» التي كانت ذريعة للتدخل الأجنبي ولتفكيك المجتمع العربي وبذر الفتن هذا من جهة، ومن جهة أخرى من أجل تأكيد المشروع القومي وإظهار الوحدة الحضارية لمكونات المجتمع العربي. كما رفد جميل ناجي في حديثه في هذا الفصل، وتحت عنوان (العرب المسيحيون والمشروع القومي) بأن العرب المسيحيين أسهموا في النهضة العربية الحديثة مشكلين نقلة حقيقية في التاريخ العربي، قائلا «لا يمكن على أي حال اعتبار العرب المسيحيين أقلية داخل مجتمعاتهم فهم مكوّن تاريخي للأمة حتى قبل الإسلام. وبالتالي، من وجهة نظر قومية، المواطَنة هي في النهاية مرجعية الفرد للدولة، ولا مكان داخل هذه الدولة للهويات القاتلة الطائفية والإثنية وغيرها». مشيراً الكاتب إلى أن ياسين الحافظ ذكر في كتابه «في المسألة القومية الديمقراطية» أن الحكم العثماني بنى المجتمع الإسلامي من عمارات طائفية متعددة (نظام الملل) حوّل من خلالها الظاهرة الطائفية من ظاهرة سياسية أيديولوجية إلى ظاهرة مجتمعية كلية. وقد أسهمت هذه التفرقة في تبلور نزوع قومي ديمقراطي لدى العرب المسيحيين لعب دوراً مهماً في النهضة العربية. خاتما حديثه «إن وجود (الأقليات) داخل جسد الأمة يغنيها ويوسع روافدها الثقافية، ولا يمكن أن تتناقض مصالح هذه الأقليات مع المشروع القومي وتحقيق الأهداف القومية إلا إذا ارتبطت بمشاريع خارجية أو انفصالية».

العروبة والإسلام
في الفصل الثامن من الكتاب تحدث بشار شخاترة وتحت عنوان: (إسلام أم عروبة) أن موقع العروبة من الإسلام والإسلام من العروبة ما زال مثاراً للجدل إلى يومنا هذا، مشيراً إلى أن الرغبة في تعمد إثارة هذا الموضوع وإبقائه حيا من دون نتائج حاسمة هو الرغبة في خلق صراع دائم بين أبناء الأمة العربية حول الهوية وخلق واقع من الضياع والتشتت يؤجج الانقسام ويعزز النزعات الانقسامية. مؤكداً أن العروبة لم تكن طارئاً تاريخيا بين أمم الأرض بل هي كيان متجذر عبر دهور سحيقة، وأن الإسلام كرسالة سماوية، دين محتواه عربي ولسانه عربي ومجده وعنفوانه وتألقه عربي، متابعا إن العروبة هي هوية النبي الكريم ولا يستطيع أحد أن يدّعي أنه كان فارسيا أو تركيا أو غير ذلك، وإن اعتنق غير العرب الإسلام فليس في هذا تناقض، فأمم الأرض أخذت الإسلام وبقيت فارسية أو تركية أو هندية إلى آخر القائمة، فلم يأت الإسلام لإلغاء هوية الشعوب. مضيفاً: «إن افتعال الصراع بين العروبة والإسلام ما هو إلا محاولة لنفي العقل، وذلك بما تمثله النزعة القومية من فكرة عقلانية، مما لا ينفي ذلك أبدا أن الدين ينسجم مع العقل، ولكن قبل سيطرة المدارس التي حاربت النزعات العقلانية في الإسلام لحساب الانصياع للنصوص، وهو ما عرف بصراع النقل في مواجهة العقل في التعاطي مع النصوص الدينية وإطلاق الأحكام والفتاوى».

اللغة العربية في البعد القومي
في الجزئية التاسعة والأخيرة من الكتاب تحدث صالح بدروشي تحت عنوان (لغتنا العربية ضمان نجاح نهضتنا) بأن الاستهداف الذي تعرضت له أمتنا العربية من القوى الاستعمارية والصهيونية ولا تزال، كان موجها في جزء كبير منه نحو مسخ وتفكيك الهوية عن طريق ضرب وحدة الوجدان الذي تخلقه وحدة اللغة. مورداً أمثلة عن تمسك الدول بلغتها القومية منها الصين التي منعت الصحف والناشرين وأصحاب المواقع الالكترونية من استخدام الكلمات الأجنبية وخصوصاً الإنكليزية، وقالت دار النشر الحكومة الصينية إن مثل هذه الكلمات تلطخ نقاوة اللغة الصينية، متابعاً: «وللحفاظ على لغتنا رمز هويتنا علينا نحن العرب أن نصونها كما تفعل الأمم المتحضرة للحفاظ على هويتها». متابعا: «وعلى الرغم من موجة التفريط الرسمي العربي في السيادة العربية لم تتردد المنظمة الدولية اليونيسكو في اعتبار اللغة العربية لغة عالمية وتخصيص اليوم الثامن عشر من شهر كانون الأول من كل عام يوماً للغة العربية». خاتما بأن النهوض باللغة القومية هو من واجب كل الذين يعلنون أنهم قوميون ويرفعون شعار القومية العربية والوحدة العربية، وهذا الالتزام يحتم علينا أن نعرّب تعليمنا واقتصادنا بشكل كامل وكل نواحي حياتنا الاجتماعية والثقافية حتى نتمكن من النهوض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن