قضايا وآراء

وجه آخر لـ«الهيبـة المهدورة»!

| عبد المنعم علي عيسى

فضح إعصار «هارفي» الذي ضرب ولاية تكساس الأميركية وقتل حتى الآن 47 من أبنائها وشرد 40 ألفاً آخرين، العجز الأميركي بل أصاب العظمة الأميركية برمتها في مقتل أيضاً، فقد وقفت الإمبراطورية الأعظم التي وصلت إلى حدود من القوة الأسطورية، لم يسبق أن بلغتها قوة في التاريخ، عاجزة عن فعل شيء أمام قوى الطبيعة وجبروتها، وسرعان ما تبدت وظهرت مواطن الترهل والضعف في العديد من المظاهر التي رافقت الحدث، منها بروز النقص الفادح في إجراءات الحماية وكذلك في عدم توفر المال والكوادر اللازمين للسيطرة على هكذا كارثة، إضافة إلى حالة بطء إدارية غريبة لكنها كانت لافتة وعبرها تكشفت للخارج أحياء «الكرفانات» التي يعشش فيها الفقر «الكاليفورني».
بالتأكيد يوجد لهذا التوصيف الأخير «الإمبراطورية الأعظم»، الكثير مما يبرره أو العديد من موجباته، وفي الذروة منها القدرات العسكرية الخيالية المتناغمة مع أرضية اقتصادية كانت قادرة على حملها وإيصالها إلى أهدافها، ولربما تطول السلسلة في هذا السياق كثيراً مما لا يمكن حصره، إلا أن ذلك لا يمثل سوى أحد وجهي حبة العدس الأميركية، على حين أن وجهها الآخر الذي تمظهر في العجز الذي أبدته تلك القدرات تجاه «هارفي» حتى بدت تلك القدرات محدودة كما لو أنها لبلد صغير وفقير، وهو ينتمي إلى العالم الثالث أيضاً، وما ظهر هو عجز كبير في احتواء الأزمة أو الحد من تداعياتها وآثارها وصولاً إلى إعادة ترميم وبناء ما خلفه الإعصار، واللافت أن هذا العجز كان قد ظهر جلياً أيضاً إبان إعصار «كاترينا» الذي ضرب أميركا عام 2005 وإن كان تمظهره بدرجة أقل، مما يعني أن ذلك العجز إنما يتخذ خطاً بيانياً متصاعداً في مساره.
إن استمرار تنامي القدرات العسكرية، وهو ما تفرضه الإستراتيجية الأميركية الرامية إلى استمرار تفوقها وسيطرتها على العالم، من دون أن يكون ذالك التنامي في موازاة تنامي «القدرات الحضارية»، يمكن أن تكون له منعكسات خطيرة جداً، وهو من شأنه أن يحيل القوة الأميركية إلى قوة عظمى قادرة على ممارسة الحرب والقتل، بل تبدع فيهما وصولاً إلى الاستخدام المفرط للقوة وسيلة للمحافظة على موقعها المتقدم.
ولطالما كانت هذه الحالة الأخيرة، الإفراط في استخدام القوة، قد لعبت دوراً محورياً في تفكك وانحلال العديد من الإمبراطوريات الحديثة والغابرة ولعل أبرزها الإمبراطورية الآشورية التي زالت في عام 934 ق. م، فكيف الأمر إذا ما كانت هذه الحالة الأخيرة مترافقة بمناخات أخرى مساعدة مثل التفاوت الكبير ما بين الشمال الأميركي الغني وبين الجنوب الأميركي الفقير، ولربما كانت هذه الظاهرة عامة في جميع الدول المتقدمة حتى باتت تمثل تحدياً حقيقياً لاستمرار تطورها ووحدتها في كيان واحد.
في الحالة الأميركية يمكن لحظ الوضع المأزوم في ولاية كاليفورنيا التي تقول تقارير اليونيسكو لعام 2012 إنها تعيش حالة متردية لجهة سوء الأحوال المعيشية فيها، وكذا لجهة تردي الحالة الدراسية وكلتا الحالتين قادت إلى مناخات يسود فيها الجهل والتخلف والفقر على الرغم من أن اقتصادها، أي كاليفورنيا، هو السادس عالمياً ويسبق اقتصادات عديدة لدول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، واللافت أن تراجم هذه الحالة لم تتأخر طويلاً حيث يمثل تحالف «آنسر» ردة فعل قوية على هذا الواقع واستطاع أن يجمع تواقيع 600 ألف مؤيد للاستفتاء الذي دعا إليه في عام 2019 وهو يهدف إلى انفصال الولاية عن باقي الولايات الأميركية، وقد يقول قائل في هذا السياق إن النظام الأميركي هو نظام غير مركزي وبمعنى آخر فإن انفصال بعض أجزائه لا يعني انفراط عقد الأجزاء الباقية بالضرورة، إلا أن لعملية الانفصال تداعيات عديدة ومهمة تعمل وفق آلية عمل الفيروس وهي من شأنها أن تنتج مناخات ضاغطة ومؤثره على الولايات المجاورة، لا يمكن تجاهلها فكيف الأمر إذا ما كانت تلك الولايات تجتمع تحت راية الجنوب الفقير؟
أعلنت المنظمة الأميركية لشؤون الزلازل والكوارث الطبيعية يوم 5 من أيلول الجاري عن أن الإعصار «إيرما» القادم من البحر الكاريبي يقترب من الشواطئ الأميركية وهو من شأنه أن يؤدي إلى حالة من حبس الأنفاس مبررة قياساً إلى تجربتي «كاترينا» و«هارفي»، والمؤكد أن هذا الإعصار الأخير سيكون علامة مسجلة تطبع الأداء الأميركي وتحدد نسبة العجز فيه، كما ستحدد السرعة التي ينطلق فيها هذا الأخير راسماً خطه البياني ودالاً على انهدام أحد جدران القلعة المهمة، فلننتظر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن