قضايا وآراء

الإنجاز الإيراني: المعاني والآفاق

القاهرة – فارس رياض الجيرودي : 

شأنه شأن الانعطفات الكبرى في التاريخ يضع الإعلان عن الاتفاق بين إيران والدول الست حول البرنامج النووي الإيراني، حداً بين مرحلتين سابقة ولاحقة، بما يعنيه ذلك من انقلاب في المعادلات والتوازنات والأولويات على مستوى صراعات الإقليم بل العالم، فالأهمية الإستراتيجية للإعلان لا تتعلق بالتفاصيل النووية ولا حتى بدخول إيران رسمياً إلى نادي الدول النووية كما سبق أن دخلته باكستان حليفة الغرب، من دون أن يعني ذلك أي تغيير جدي في توازنات القوى على الساحة الدولية، بل إن الأمر يتعلق في الحالة الإيرانية باضطرار الغرب بعد 35 عاماً من محاولة فرض العزلة والحصار والحروب المباشرة وغير المباشرة على دولة تنتمي للعالم ثالث، إلى الاعتراف أخيراً بهذه الدولة كقوة كبرى وطرف مهم في الأسرة الدولية، لتكون إيران بذلك أول دولة في العالم يشرع لها مجلس الأمن والأمم المتحدة كامل حقوقها النووية السلمية، وأول دولة في العالم تخرج من تحت طائلة البند السابع بالجهود الدبلوماسية، وأول دولة في العالم يعترف رئيس الولايات المتحدة الأميركية في خطاب علني بأنها شكلت نداً ذكياً لبلاده، وليتم كل ذلك وإيران لا تزال ترفع ذات الشعارات السياسية التي رفعتها إبان ثورتها، والتي تسببت بالمواجهة التاريخية القاسية مع الغرب خلال العقود الثلاثة والنصف الماضية، ما يعني أتوماتيكياً وبالضرورة سقوط البربابوغندا التي كانت تلصق صفات الجنون والفشل بقيادة هذا البلد، وبقيادة أي بلد يجرؤ على تحدي السياسات الغربية في العالم، ما سيكون له تداعيات ضخمة على صعيد فتح الأفق أمام طموحات دول العالم الثالث الراغبة بالانعتاق والتحرر من أعباء التبعية السياسية والاقتصادية لدول العالم الغربي التي تفقد مركزيتها التاريخية في النظام الدولي بسرعة يوماً بعد آخر.
بالتأكيد لا يعني ما سبق أن الاتفاق يضع نهاية لصراع الغرب مع إيران، أو أننا سنكون إزاء تحالف غربي إيراني، كما تحاول أن تصور الدعاية السياسية الساذجة التي تطلقها الأنظمة العائلية المرتبطة تاريخيا ووجوديا بالغرب في عالمنا العربي، بل إن الترجمة السياسية الواقعية للإعلان عن الاتفاق بين إيران والدول الست الكبرى في العالم تتلخص بالاعتراف العالمي الناجز بإيران وبموقعها في معادلات الصراع الدولي كطرف أساسي، وبالتخلي النهائي عن فكرة حذف دورها، سواء كان ذلك عبر استهدافها بضربة عسكرية أو حصارها اقتصادياً أو عبر محاولة إسقاط حلفائها، وبالتالي نحن أمام نموذج شبيه بالاعتراف بمكانة الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى إثر الحرب العالمية الثانية، أو الاعتراف بالمارد الصيني في بداية عقد السبعينيات، وهو ما أشار إليه الرئيس الأميركي نفسه خلال خطابه الذي تلا إعلان الاتفاق، لكن ما يميز النموذج الإيراني كبلد متوسط العدد سكانيا ويقع خارج القارة الأوروبية البيضاء، البعد التحرري الذي ينطوي عليه، والذي سيجعله حالة ملهمة لشعوب وحكومات البلدان النامية في المنطقة وحول العالم، وبالتالي يشبه نجاح إيران بانتزاع الاعتراف ببرنامجها النووي نجاح مصر الناصرية في واقعة تأميم قناة السويس، وهو النجاح الذي أهلها لإطلاق مشروع على مستوى المنطقة سمي بالمد القومي العربي، وكما شكل نجاح مصر في تأميم قناة السويس ذعراً للقاعدة الاستعمارية في المنطقة (إسرائيل) ولأنظمة السلالات العائلية المرتبطة جذريا بالغرب وسياساته في منطقتنا، يسبب الاعتراف الدولي بإيران عبر بوابة الاعتراف بمشروعها النووي اليوم ذعراً مضاعفاً للأطراف الإقليمية ذاتها، فإيران التي تصر على لسان قادتها على خوض معركة وجودية مع الصهيونية والغطرسة الأميركية، أنجزت خلال فترة العقوبات ومحاولات العزل الماضية، بنية علمية وعسكرية ضخمة، واقتصاداً متيناً سيزيده رفع العقوبات الاقتصادية انتعاشاً، ما يعني فضيحة تاريخية ثقيلة لأنظمة السقوط العربية التي حاولت بإلحاح إقناع شعوبها خلال العقود العجاف السابقة منذ اتفاقية كامب ديفيد، بعقلانية سياسة الارتماء تحت الجزمة الأميركية وبفوائد التكيف مع الحالة الصهيونية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن