ثقافة وفن

حقي بك العظم بين مطرقة الصحافة وسندان الساسة!

| شمس الدين العجلاني

هو حقي العظم سياسي ورجل دولة، ولد في دمشق عام 1865م، لعائلة من جذور تركية، توفي في مطلع سنة 1955، تابع دراسته في المدارس العثمانية والدمشقية، وعيّن في عدد من الوظائف في دمشق والآستانة والقاهرة، أصدر جريدة أسبوعية باسم « الشورى» بالعربية والتركية، وله العديد من المؤلفات.. بدأ حياته العملية بوظيفة في دائرة الدفتر الخاقاني (المصالح العقارية) في دمشق ثم في الآستانة ثم نقل إلى الجمرك، انتدب إلى مصر وعيّن بوظيفة في وزارة المعارف وفي سنة 1909 عيّن مفتشاً في وزارة الأوقاف العثمانية وكان فيما مضى يناصر جمعية الاتحاد والترقي العثمانية ثم انسحب منها واستقال من منصبه.. أسس حزب الإصلاح في سورية وجمعية اللامركزية في مصر، وفي زمن الانتداب الفرنسي على البلاد عيّن عام 1920 رئيساً لمجلس الشورى ثم حاكماً لدولة دمشق، وفي سنة 1925 أعيد إلى رئاسة الشورى وفي سنة 1932 عيّن رئيساً للوزارة وفي سنة 1934 أعيد إلى مجلس الشورى للمرة الثالثة ثم أحيل على التقاعد في سنة 1938.. تعرض لمحاولة اغتيال على طريق القنيطرة «على مسافة 12 كلم من القنيطرة» يوم 23 حزيران عام 1921 حين كان مرافقاً للجنرال غورو المفوض السامي الفرنسي وأصيب بثلاثة جروح في الشفة والذراع والفخذ، عندما فدى غورو ورمى نفسه فوقه. كانت المنافسة قوية بين حقي العظم والشيخ تاج الدين الحسني، زمن الانتداب الفرنسي على حكم سورية، فتارة كان يقع اختيار السلطة المنتدبة على هذا وأخرى على ذاك وصنف الاثنان في خانة المتعاونين مع المستعمر الفرنسي.

مجلة المضحك المبكي
لن نبالغ إن قلنا إن مجلة «المضحك المبكي» من أكثر الجرائد التي تناولت بالسخرية حقي العظم آنذاك، فلم يخلُ عدد منها من رسم كاريكاتيري ساخر لحقي العظم، ناهيك عن الكتابات اللاذعة ويقول حبيب كحالة صاحب مجلة المضحك المبكي: «فلا يصدر عدد من مجلتي إبان حكمه إلا وفيه على الغلاف الخارجي رسم كاريكاتيري له على شكل من أشكال الحيوان أو غيره وتحته عبارة تتضمن نكتة أو نقداً لاذعاً».
أما عدد مجلة المضحك المبكي رقم 212 تاريخ 14 نيسان عام 1934 م، فقد نشر تحت عنوان «مذكرات لحقي بك» على لسان العظم: «لقد رشحتني السلطة «المقصود المستعمر الفرنسي» إلى رئاسة الجمهورية فقلت لها حاضر ورشحت نفسي، ثم عدلت وقالت المصلحة تقضي بأن نرشح غيرك، فقلت لها على عيني وراسي رشحي غيري، ثم قدمتني لرئاسة الوزارة فقبلتها، ثم طلبت إلي أن أقدم استقالتي ففعلت، وهكذا دواليك..».
بشير فنصة يروي

هو الأديب والصحفي، ترأس تحرير صحيفة (ألف باء) بدمشق وأسس فيما بعد مع شقيقه الأصغر نذير، الذي أصبح فيما بعد عديلاً لرئيس الجمهورية حسني الزعيم وكاتم أسراره، صحيفة (الأنباء) الأسبوعية.
ويروي فنصة عن حقي العظم: «حدثني ذات يوم صديقي المرحوم الدكتور خالد الطباع عن حقي العظم حديثاً عجباً قال:‏ كان حقي العظم من خيرة أصدقائي، إذ كنت أكبر فيه، واسع علمه، ورحابة صدره، ونهجه الحر بالتفكير، وكنت والشيخ راغب العثماني من أصدقائه الخلص. ‏
وكان يتردد على عيادتي في شارع عرنوس كل مساء عندما يكون خارج الحكم، فإذا دخل الحكم لا أعود أراه ولا يراني إلا لماماً، إذ لم يكن لي عنده حاجة، ولم أكن في يوم من الأيام بطالب وظيفة، ولا صاحب غرض أو شفاعة أو وساطة لأحد، فعيادتي تدر علي من المال أكثر من راتب مئة موظف، ولذلك كان يكنَّ لي احتراماً خاصاً، ويأنس إلى صحبتي لعلمه الأكيد أن صداقتنا كانت تقوم على مجرد الصداقة لا من أجل كسب أو مصلحة أو استغلال. وكان صاحبي ذواقة للأدب والشعر مثلي، فكنا نقضي سهرات طويلة نتجاذب خلالها مختلف الأحاديث الأدبية والتاريخية. ‏
إلا أنه مما كان يدعو إلى السخرية والضحك، أن الكثيرين من أهل هذا البلد الذين عرفوا مدى الصداقة التي تربطني برجل الدولة هذا– ولا شيء يخفى على الناس في هذا البلد- كانوا كلما سمعوا بشائعة تسري حول قرب عودة العظم إلى الحكم، يتهافتون على عيادتي طلباً لكسب ودي، وتقرباً وزلفى إلى صاحبي، حتى كان هذا السلَّم الخشبي في عيادتي ينوء بحملهم ويهتز تحت أقدامهم لكثرة ترددهم عليّ، بيد أنه ما إن يخرج صاحبي من الحكم مغضوباً عليه من السلطة المنتدبة لسبب من الأسباب حتى لا يعود أحد من هؤلاء المتزلفين يزورني أو يلوي عليَّ، فيعود صديقي حقي العظم إلى زيارتي كعادته القديمة، نقضي الأمسية وحدنا من دون أن يعكر علينا صفو جلستنا معكر. ولما حدثته ذات مرة بأمر هؤلاء الناس ضحك وقال: إني أعرفهم أكثر منك… ويكفي أن تنطلق شائعة غداً بقرب عودتي إلى الحكم حتى تراهم يغدون عليّ وعليك زرافات ووحدانا».

جريدة الشورى
جريدة الشورى الأسبوعية أصدرها الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر في القاهرة عام 1924، وتعتبر من أشهر الصحف العربية التي كانت تصدر في بداية القرن العشرين، وهي صحيفة سياسية، تبحث في شؤون «بلاد الشام» فلسطين وسورية ولبنان وشرق الأردن. وبسبب سياساتها الوطنية منعت من الدخول إلى عدد من الدول العربية! ومن ثم سحبت السلطات المصرية ترخيصها عام 1931..
كان هنالك عداء من حاكم دمشق حقي بك العظم تجاه الصحفي والكاتب يوسف العيسى صاحب جريدة «ألف باء» الدمشقية، وقد كلف العظم عدداً من أعوانه للاعتداء على «العيسى» حسبما تذكر جريدة «الشورى» وقد تناولت هذه الحوادث في عدة أعداد حيث جاء في عددها الصادر يوم 22 تشرين الأول عام 1924م: «كان حقي العظم أيام الترك موظفاً بسيطاً بأوقاف سلانيك– رحمها اللـه– فلما عزلوه أخذ يتاجر بالعربية وينادي بحقوق العرب، ولما أعادوه سكت، أسكته الله، ومضت أعوام من دون أن نسمع له صوتاً… ولما قامت ثورة الحجاز كان حجازياً يكتب المقالات الطوال في مدح الحسين وأولاده، فلما حرموه ذهبهم، انقلب إنكليزياً، فلما اعرضوا عنه صار فرنسياً.. واليوم نجد حقي العظم يتربع على كرسي حكم دمشق، يتربع لا لأنه من الأكفاء بل لأن كتفيه كانا أوطأ للفرنسيين من ركابهم، بلغنا أن حقي العظم هذا أرسل بعض الأوباش فاعتدوا في الشارع العام على الزميل الكبير يوسف بك أفندي العيسى صاحب جريدة ألف باء بدمشق وهذا الاعتداء هو ثاني الاعتداءات التي ارتكبها (ابن خريستو) من هذا النوع في شهر واحد، ليس الحق في هذا كله على حقي، فحقي رجل لا عقل له…» وتتابع «الشورى»: «لم تعد حقيقة ما يجري عندنا بين دولة حاكم دمشق وبين الصحفيين بخافية وبالأخص بينه وبين الأستاذ العيسى صاحب جريدة ألف باء، وقد عمد دولة الحاكم مؤخراً وهو المشهور بضيق الصدر إلى إقامة القضايا على صاحب ألف باء فكانت محاكم دمشق تردها واحدة بعد الأخرى. فلما اشتد بدولته الهياج حمله النزق على إرسال الأوباش للاعتداء عليه فقاموا بما انتدبوا إليه مرتين بنجاح فائق! ففي المرة الأولى كان مندوبه في هذه المهمة الشيخ أبا الخير الفرا وأما في المرة الثانية فإن عدد «المندوبين» كان ثلاثة! وقد هجم أحد هؤلاء فضرب الزميل العيسى بنبوت على رأسه….».
وفي عددها الصادر يوم الأربعاء 4 تشرين الثاني 1924م ذكرت «الشورى»: «صرح المسيو شوفلر وكيل المفوض السامي بدمشق لصاحب ألف باء بحمل مسدس للدفاع به عن نفسه.. عند اللزوم! ولكن ضد من؟ ضد الأشقياء الذين يرسلهم حقي العظم للاعتداء عليه بين سمع دولة الانتداب وبصرها، فهل جاءت فرنسا لسورية، لتعلم يوسف العيسى، وقد جاوز الأربعين، حمل المسدسات؟».
وتقول «الشورى» في عددها الصادر يوم 19 تشرين الثاني عام 1924م: «روت جرائد سورية خبر اعتداء بعض الرعاع مرتين على صاحب جريدة ألف باء الدمشقية الكاتب المعروف يوسف افندي العيسى انتقاماً منه لأن الجريدة انتقدت صاحب الدولة حاكم دمشق، ودولته قاضاه فبرأته المحكمة…. حدث هذا الاعتداء علناً في شوارع الشام».

العظم يفدي غورو
ذات يوم من أيام حزيران من عام 1921، وبالتحديد في الثالث والعشرين منه، كان غورو المفوض السامي الفرنسي، مدعواً إلى حفل غداء في دارة الأمير محمود الفاعور زعيم عشيرة الفضل في السويداء، فركب سيارته المكشوفة مصطحباً حاكم دولة دمشق حقي العظم، والمقدم كاترو ممثل المفوضية العليا في دمشق اللذين جلسا في المقعد الخلفي إلى جانب الجنرال، والضابط المترجم برانيه الذي جلس إلى جانب السائق، وخلف سيارة غورو عدد من سيارات المدعوين إلى ذلك الحفل.
وقبل وصول الموكب إلى القنيطرة بمسافة 12 كلم اعترض الموكب مجموعة من خمسة خيالة مكفهري الوجوه، مسلحين ببنادق، ما لبثوا أن استداروا ليطاردوا سيارة غورو ويطلقوا عليها خمس عشرة طلقة، إلا أن السائق زاد من سرعته مبتعداً عنهم. وهنا ارتمى حقي العظم فوق غورو ليقيه من رصاص الأبطال..
أصيب المترجم (برانيه) بالطلقة الأولى، في رأسه فقتل، وانقلب واقعاً على الطريق. أما حقي بك العظم، الذي برهن عن رباطة جأش فقد أصيب بثلاثة جروح في الشفة والذراع والفخذ، وأما الجنـرال غورو فقد اخترقت رصاصتان أكمامه.

حقي العظم وطربوش فارس الخوري
يحكى عن طربوش حاكم دمشق حقي العظم، أنه في عام 1921م كان الاحتلال الفرنسي قد عينه حاكماً لما سمي في ذلك الوقت «دولة دمشق».. وفي دعوة على الغداء قد حضرها الحاكم العظم وكانت تضم كبار الشخصيات السياسية السورية حينها ومنهم فارس الخوري… وبعد الانتهاء من دعوة الغداء خرج فارس الخوري قبل المدعوين ووضع طربوش حاكم دمشق على رأسه أولا ثم وضع طربوشه «وكان كبيراً لضخامة رأس فارس الخوري» فوق طربوش الحاكم وبذا اختفى الطربوش الصغير لحاكم دمشق العظم، وعند انصراف المدعوين وعلى رأسهم الحاكم تحرى عن طربوشه فلم يجده.. فشاركه في التحري عنه جميع الحاضرين وبدأت الولولة والارتباك بين الحضور.. ماذا حل بطربوش الحاكم؟ وفارس الخوري يتفرج على النكتة الطريفة.. وبعد برهة من الزمن انبرى فارس الخوري وقال: إنه آسف لأنه نسي طربوش دولة الحاكم في طربوشه ولم يشعر بوجوده إلا عندما تحروا عنه! وكشف عن رأسه، وأخرج طربوش الحاكم الصغير وقدمه له، فامتعض الحاكم امتعاضاً شديداً لأن مغزى هذه الحركة كان واضحاً بأن رأس الحاكم كان صغيراً كما أن دماغه كان بنسبة صغر ذلك الطربوش.. وكانت النكتة ميداناً فسيحاً بين الناس بدمشق للتنكيت والتعليق وأن فارس الخوري قد أثبت كون حاكم الدولة من أصحاب العقول الفارغة.
حقي العظم نال ألقاباً كثيرة وتبوأ مناصب عديدة، لكن السلطة الرابعة، صاحبة الجلالة، كانت دائماً له بالمرصاد فلم يسجل له التاريخ إلا انتهازيته وعمالته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن