من دفتر الوطن

رجل وفكرة

| حسن م. يوسف

يخطر لي أحياناً، أن الفكرة العظيمة كالحجر الكريم مستقلة بنفسها، وتستمد أهميتها من طبيعتها وتكوينها، إذ إن مكان العثور على الحجر الكريم ومعرفة الطريقة التي اتبعت في التنقيب عنه لا تؤثر في قيمته البتة. إلا أن الفكرة العظيمة التي أود أن أختم بها هذا المقال ستفقد الكثير من قيمتها إذا لم نعرف من قائلها. لذا اسمحوا لي أن أتوقف معكم قليلاً عند صاحب الفكرة قبل الوصول إليها.
الرجل صاحب الفكرة هو الجنرال الفيتنامي فو نجوين جياب الذي عاش قرناً وعامين وأحرز أهم نصرين في القرن الماضي؛ النصر على الفرنسيين في معركة «ديان بيان فو» والنصر على الأميركيين في حرب فيتنام.
ولد جياب في 25 آب سنة 1911 في قرية في وسط ولاية «كوناغ بنه» الفيتنامية. في يفاعته كان جياب معجباً بالجنرال الصيني سون تزو الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، كما كان معجباً بالقائد الفرنسي نابليون، لكنه رغم ذلك درس الاقتصاد السياسي في هانوي وعمل مدرساً للتاريخ والأدب في إحدى الجامعات، كما كتب في الصحافة باسم مستعار.
عندما ضيق المستعمرون الفرنسيون على الوطنيين الفيتناميين أواخر ثلاثينيات القرن الماضي فر جياب إلى الصين والتحق بهو شي منه فقامت سلطات الاحتلال الفرنسي باعتقال زوجته وابنهما الصغير، وقد فجر موتهما في السجن غضب جياب ضد الاستعمار.
في مطلع الأربعينيات عاد جياب مع هو شي منه إلى غابات فيتنام الشمالية وقاد حرب المقاومة ضد المحتلين فبرز كقائد عسكري لا يجارى، وقد تكرس كبطل شعبي للمقهورين ليس في فيتنام فحسب بل في كل أنحاء العالم بعد انتصاره المجيد على الفرنسيين في معركة «ديان بيان فو» عام 1954 التي أنهت حقبة الاستعمار الفرنسي لفيتنام.
بعد معركة «ديان بيان فو» قال جياب: «لقد كانت تلك أول هزيمة عظيمة للغرب، هزت أسس الاستعمار وجعلت الناس يقاتلون من أجل حريتهم. لقد كانت تلك بداية الحضارة العالمية».
وعندما جثم الأميركيون محل الفرنسيين على صدر الشعب الفيتنامي، واصل جياب قيادة المعركة ضدهم إلى جانب هو شي منه، فحيرت أساليبه القتالية الأعداء ومكنت الشعب الفيتنامي عام 1975 من إلحاق الهزيمة بالأميركي الخارق الذي سوقته هوليوود بوصفه البطل الذي لا يهزم.
وقد اعترف الكاتب الأميركي ستانلي كارنو بأن عبقرية جياب كإستراتيجي عسكري تضعه «في المرتبة ذاتها مع عظام القادة العسكريين… ولكن على عكسهم فإن إنجازاته تعود إلى عبقريته الفطرية وليس إلى التدريب الرسمي».
في صدر شبابه كان جياب يمني نفسه أن يرى بلاده محررة وموحدة وقد عاش ليرى نفسه أحد محرريها وموحديها.
والآن إليكم الفكرة- الجوهرة التي قالها الجنرال جياب والتي كانت دافعي لكتابة هذا المقال: «الثورة التي لا يقودها الوعي تتحول إلى إرهاب، والثورة التي يغدق عليها المال يتحول ثوارها إلى لصوص ومجرمين».
المجد للجنرال جياب، فهو لم يكن قائداً عسكرياً فذاً فحسب بل كان مفكراً وصاحب رؤيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن