ثقافة وفن

سماحة المفتي العام الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون وسيرة غير ذاتية من حمل الكفن إلى درعا وإلى استشهاد سارية يمثل روح العالِم المتسامي المسامح

| إسماعيل مروة

مضت ثلاثة عقود على بداية علاقة قدرية هي من أكثر العلاقات إدهاشاً في حياتي، وقبل ثلاثة عقود لم أكن لأتخيل أن هذا اللقاء سيمتد أكثر من الوقت الذي استغرقه اللقاء الأول… قبل ثلاثة عقود لقيت الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون في حلب، وهي من المرات القليلة التي أسمع فيها شيخاً معمماً، ويملك هذه اللغة المطواعة، وهذا التوجيه الرفيق الرقيق، وهذه الابتسامة الساحرة التي تزرع فيك التفاؤل وروح اليقين بالإنسان وعلة وجوده.. وبعد سنوات وجدتني أقصده من جديد، فأوحى إليَّ أنني ما غادرته، وتيقنت من أنه لم يذكرني، لكنه بتتابع الأسئلة الذكية أخرجني من الحرج وأعطاني صفة الصديق القديم.. فازدادت مكانته عندي وصار التواصل أكثر قوة… إلى أن عقد مؤتمر للمرأة في دمشق، فأوكل إليَّ الأستاذ وضاح عبد ربه رئيس تحرير «الاقتصادية» مهمة أن أحاور الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون بما أنني على صلة به.. وكانت لحظة الاشتعال التي جعلتني واحداً من أسرته وأحد أفرادها… ومنذ ذلك اليوم أسعى لديه بأن أحرر سيرته الذاتية، فيهز برأسه، وفي اللقاء الثاني يتجاهل طلبي، فأعرف أن الموضوع لم يأخذ لديه الموقع الذي أحب.

العلم المتجذر

عندما دخلت بيت سماحته في حلب أول مرة راودتني مشاعر شتى، فالمكتبة العامرة، والأسرة التي تحيطه بتهذيبها، والكرم غير المحدود، والعز الذي يدل على أصالة متجذرة غير طارئة.. وبدأت أحاديثنا تتواتر بين بيته العامر ودارة الإفتاء بحلب، وفي كل جلسة كان الشيخ الوالد أسبغ الله عليه رحماته هو مدار الحديث، هذا الأب المثال في علمه وزهده وتوجيهه، وكم وقفت عند شخصيته فهو الموجه والمربي والشيخ، وهو الوالد الحنون المحب، وهو المرشد الذي لا يقبل مجاملة، ولا يفتأ يعيد على مسامع شيخنا نصائحه، ومن يجلس إلى سماحته ولو لوقت قصير، فإنه لا بد سيسمع اسم الشيخ وأقواله، وشيئاً عن أفعاله، لأنه يسكن تفاصيل شيخنا، وكلماته تهديه، وخاصة في احترام الآخر، وقد روى لي الكثير من احترامه للمشايخ والعلماء في حلب والشام، وفي العالم الإسلامي.
فالشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون شيخ ابن شيخ، وعالم ابن عالم، ومتصوف ابن متصوف، وله رأي مهم في التعليم الشرعي وآلياته، وما هو عليه، ويشارك في ذلك والده الجليل الذي ينتقد الشدة والقسوة في تقديم هذا الجانب المهم من الدين.. وأقف عند الشيخ الجليل الراحل لأنه علامة وهداية في حياة سماحة المفتي وعلمه وعمله في الشأن العام. وللإشارة إلى العلم المتجذر الذي نهل منه سماحته، وأتمه على أيدي العلماء الأجلاء في الأزهر ليعود شعلة من علم وعمل في الشأن العام ولا أقول السياسي، لأن الشأن العام هو من مهام عالم الدين، ومن الواجب عليه ألا يعتكف في معبده أو صومعته منتظراً الآخر ليأتي إليه، بل عليه هو أن يسعى للآخر، ولإيجاد صلة وثيقة مع الآخر الذي يختلف عنه، ولا خلاف بينهما.

الدكتور حسون والآخر والحب

حين بدأ سماحته مهامه بعد أن كان خيار السيد الرئيس بشار الأسد لتولي مهام الإفتاء بدأت مروحة علاقاته تتسع، وبالاتجاهات كافة تأكيداً لانخراطه في الشأن العام، وترسيخاً لدور عالم الدين الحقيقي، وقد بالغ السادة المشايخ في انتقاد هذا العمل مع يقينهم بضرورته الماسة، لكنهم غير قادرين على فعله بما ملكوا من قدرات وعلم، وبما يملكون من قبول لدى الآخر، ومن عجز في الرؤية! ولو عدنا إلى مرحلة سابقة فسنكتشف رؤية الدكتور حسون، فهو لم يفعل ذلك حين صار في موقع الإفتاء بل كان يفعله عندما تولى إفتاء حلب، وقبل ذلك وبصفته العلمية والشخصية، فكم شهدت الكنائس والمساجد من فعاليات كان وراءها؟ وكم تعزز دور المؤسسة الدينية في الفعاليات الاجتماعية، وفي أكثر من مرة صادف أن كنت برفقته في حلب وهو يؤدي هذه المهام، وهو يقول: «ليس مطلوباً مني أن أنتظر السائل عن الفتوى» فهو لا يؤمن بالعالم الذي يجلس وحيداً بعيداً متعالياً حفاظاً على هيبته.
وعندما تولى سماحته مهام الإفتاء، وهو في أوج رجولته وقوته وعطائه استمر على نهجه في الحديث مع الآخر وعنه، وناله نقد كثير، حتى في الفعاليات الاجتماعية والثقافية لم يتردد سماحته في المشاركة بكل فعالية يسمح له الوقت بحضورها، بل كلما طلب إليه تحدث، لا ليعظ، وإنما ليحدد معالم الطريق والحياة، وهذا ما ساء كثيرين من محبي الحياة الرتيبة الهادئة المنعزلة، ولم نسمع من أي منهم رأياً بديلاً، وكل ما سمعناه هو من باب الانتقاد لوجه الانتقاد، وعدد منهم ناقشته، فلم أجد لديه رأياً مخالفاً لرأي سماحته، لكنه يحاول تفسير اجتهادات سماحته تفسيرات خاصة ليقلبها عن حقيقتها!
إن سماحته يؤمن بالحياة والشأن العام، ويؤمن بعمل الإنسان لمصلحة أخيه الإنسان لذلك وجدناه منذ مرحلة مبكرة وبإيحاء وتوجيه من السيد الوالد مؤمناً بوحدة الدين وتعدد الشرائع.

العلم والتحصيل والتناغم

أول كتاب استرعى انتباهي في مكتبة سماحة المفتي العام كتاب ضخم وفي مجلدات عدة بلغت عشرة مجلدات هو موسوعة (الإمام الشافعي) ولأنني لم أقتن ذلك الكتاب، ولم أكن قادراً على اقتنائه، استهديته من سماحته، فلم يحملني إياه من حلب، وفي أول زيارة له- وهو مفتي حلب- إلى دمشق قدّم ذلك الكتاب النفيس، وهو الذي يضم تراث الإمام الشافعي كله، وعند قراءة الكتاب، وقد فعلت، نجد سيرة الإمام الشافعي وفقهه وتطور هذا الفقه، واجتهاداته العديدة، إضافة إلى دراسة وافية وضافية لمحققه الدكتور حسون… والاختيار كما نعرف يدل على المختار، وقد اختار سماحته الإمام الشافعي بدافع روحاني، فهو الإمام الواسع العلم، الكثير الاجتهاد، المنفتح على الجميع، وهو فوق ذلك يمثل المظلومية العلمية التي عرفها التراث العربي والإسلامي دون سواه، والإمام الشافعي سافر واغترب وطلب العلم، وحورب وعذب واضطهد بشتى الأساليب بسبب آرائه واجتهاداته، ويسجل الجميع بما في ذلك العلمانيون للإمام الشافعي أنه عمل على التقريب، وتتلمذ على علماء من شتى المشارب، وكان له تلامذة من مختلف المدارس الفقهية.. وليس من عبث اختار الدكتور حسون الإمام الشافعي وموسوعته لتكون طريقه إلى العلم وشهادة العالمية، وكلما تحدثنا في أمر حول آرائه، كان يقول لي: لقد حصل للإمام الشافعي كذا وكذا.. وكأنه يقول لي اخترته لدراسته لا للشهادة العلمية، بل لتمثل حياته، وكما كان الشافعي منارة في آرائه كذلك سماحة المفتي هو منارة في علمه وظهوره واجتهاداته التي من الصعب أن يأتي بها صاحب مصلحة.
هذه المدرسة القائمة على الاجتهاد والرأي والدفاع عن الرأي هي المدرسة التي نهل منها الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون، لذلك استحق أن يكون خيار السيد الرئيس لما تحمل هذه الشخصية من مقدرات عالية على التجميع لا التفريق، وعلى الاجتهاد لا التحنيط وهذا لا يروق لمن رأى في نهج المدرسة الدينية شيئاً من الثبات، وكثيراً من المصلحة عندما تتحول المؤسسة الدينية إلى مؤسسة كهنوتية شريكة للسلطة في التسلط على الناس ومقدراتهم، وعلى عقولهم بالدرجة الأولى وهو الأهم، المدرسة التي ينتمي إليها سماحة المفتي وكثيرون هي مدرسة الإمام الشافعي المزهرة بالعلم والاجتهاد والأخذ من كل نبع علم، والفرق الوحيد أن أولئك يجهلون مدرسة الإمام، وسماحة المفتي تمثلها، ولا يعنيه أن يلقى من هذه الآراء التي تلتصق بالنص المقدس ما يلقى، وكان مثال التسامح في كل محطة، كما كان صاحب المدرسة ورائدها الإمام الشافعي، فأين تمثلت هذه المحطات من التسامح عند سماحة المفتي؟

سمات عن الإيذاء والقتل

لن يكون العالم عالماً، سواء كان العلم دينياً أو دنيوياً إلا إذا كان متسامحاً يصفح عن الناس الذين أخطؤوا في حقه بشكل مباشر، والمشكلة تتضاعف مع علماء الدين، فهم القدوة الذين من المفترض أن يكونوا على درجة عالية من الصفح والمسامحة.. فهل سمعتم بذاك العالم الذي يتخمنا بالحديث عن الغضب، وليس الشديد بالصرعة وإنما من يملك نفسه عند الغضب؟ أسمعتموه ومن ثم رأيتم كيف يكون مثالاً شديداً للغضب، يستل لسانه وقلمه وكل ما يمكن للرد بغضب!؟ أرأيتم ذاك الذي يتحدث عن العصبية ويدعو إلى زوالها واعتماد العقيدة ثم تجده أكثر الناس عصبية لقوميته ودينه ومذهبه ومنطقته؟! كلنا رأينا.. ولكن سماحة المفتي العام الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون مختلف تماماً، فكم ارتكبت من هفوات في بداية مسيرتي معه ولكنه لم يذكرني بواحدة منها، ناهيك عن أن يقتص لهذه الهفوة! وهناك أشياء لا يعرفها الناس، لكنني أريد أن أوضحها، وهي ترى النور أول مرة على الورق… فعندما حظي سماحته بثقة السيد الرئيس وتولى مهام الإفتاء العام على ما فيها من مسؤوليات، جاء من حلب العظيمة إلى دمشق الخالدة، وما بين مدينتين عظيمتين كان نشاط سماحته، والسادة العلماء، وأبناء المؤسسة الدينية، والمتطفلون على المؤسسة الدينية يعلمون أنه كان بإمكان سماحته أن يؤسس لمدرسة أو جماعة أسوة بالجماعات المعروفة والمطوّبة من الجهات الوصائية، وأن يتزعم مدرسة دينية حقيقية، لكنه لم يفعل، ولم يقبل، وسألته أنا تحديداً عن إمكانية الاستفادة من المؤسسة ذات التبعية لسماحة المفتي العام الراحل أحمد كفتارو، فأجابني هذه مؤسسة تحمل اسماً ومعهداً له المشرفون عليه، وليس من الجائز أن أنشغل به عن المهام التي جئت من أجلها، فأنا جئت للإفتاء العام لسورية، لا لتأسيس جماعة تتنافس علمياً وبطرائق شتى مع الجماعات الأخرى، فإن أشرفت على أي جماعة فسأصبح تابعاً لها مدافعاً عنها! ولننظر إلى العلماء والمشرفين على المؤسسات الدينية الآخرين الذين يتولون مواقع لدى جماعات ويقبضون الرواتب، لذلك هم يسيرون أمور الأماكن التي يشرفون عليها ويرجون لها على حساب الأماكن الأخرى، بينما سماحة المفتي يلبي دعوة أي جهة إذا دعي، ولا يتولى غير موقع الإفتاء.. وعلى الرغم من ذلك وجد من يحاول أن ينال منه ومن منهجه، وذاك الذي ينال ينغمس مع جماعات على حساب أخرى.. وسماحة المفتي بكامل الرضا لأنه يمارس إفتاءه لكل الناس، بما في ذلك من ينتمون إلى شرائع أخرى غير الإسلام.
ويوم الخميس الفائت كنت في زيارته الدورية عندما حضر الوفد الإيطالي، وشهد الإعلاميون الذين رافقوا الوفد وكل من حضر بأن رئيس الوفد الذي ينتمي إلى حزب برلسكوني أخذ رأي سماحته في قضايا، وقال له: إن صرت مسلماً فلن آخذ إلا رأيك شيخي.. هذا ألا يدل على السماح، وعلى الإقناع؟
وعن سماحه وترفعه أذكر مثالين يعرفهما كل الناس، وشهدت الشاشات عليهما:
• زيارته لدرعا في بداية الأحداث عام 2011، هذه الزيارة التي لم يقم بها سواه من علماء الدين المسلمين والمسيحيين على السواء، والتي كانت بمبادرة خاصة منه، ولا يمكن لأحد أن يجبر أحداً على القيام بها.. أتذكرون سماحته وهو يحمل كفناً ويتقدم من أهل درعا لحل المشكلات قبل أن تتفاقم؟ كان من الممكن لهذه المحاولة أن تحقن دماء لو وجدت آذاناً مصغية.. وقد سمعت بعض المتقاعسين عن الفعل والمبادرة ينالون من هذه الزيارة، والجواب ببساطة هو أليس من الممكن أن ينال سماحته أذى في هذه الزيارة؟ فهل يعقل أن يدفع نفسه إلى المخاطر وهو غير مؤمن بما فعله؟ والجواب أيضاً: لو استجاب الناس لاستغاثاته فماذا كانت النتيجة؟
واستمرت الحرب وتوالت زياراته إلى كل المناطق الساخنة، ولم يفعل ذلك سوى سماحته من العلماء ورجال الدين، فهل من حق أحدهم أن ينال منه؟
المثال الأقسى على تسامحه لحظة استشهاد ولده وفلذة الكبد (سارية) وقد كتب القدر أن تكون تلك الأيام لصيقة به، فقد تحدثت معه ونشرت «الوطن» الجزء الأول صبيحة يوم الأحد ليصاب سارية الحبيب بيوم الأحد نفسه، وأن ينشر الجزء الثاني يوم الإثنين، وقد كتب السيد رئيس التحرير وضاح عبد ربه في افتتاحية الإثنين كلام سماحة المفتي، وسارية في غرفة العمليات (سارية ليس أغلى من السوريين هو أغلى عليّ، وكل سوري غال على أهله).
وأمام جسده الطاهر المسجى، وكنت إلى جانبه في مدينة حلب أطلق الصرخة التي لم يفعلها أحد سواه، وأعلن مسامحته لقاتلي سارية، في خطبة وداعه لسارية ألقى دمه جانباً أمام سورية، وهو يعلم أن دمه يفور في روحه وروح المكلومة أم الأديب الصابرة المحتسبة التي كانت تستعد لتقديم عروسه له، فقدمته على مذبح الوطن، وقاتلوه وقتلوه عمداً، ومع ذلك أمام الناس وأشهد الله بمسامحة القاتلين عن دم ولده… كم من العلماء ورجال الدين تسامحوا؟ أما رأينا من أوذي بيته أو طال أذى طفيف بعض أسرته فتحول وصار يدعو لمحاربة الوطن.. وكلنا يعلم أن أولئك كانت لهم حظوة، وكانوا مسموعي الكلمة من كل مسؤول في الدولة دون استثناء؟
هذا هو السيد الذي يدعو إلى كظم الغضب ويفعل.
هذا هو المفتي الذي يتعالى عن ألمه الخاص، يبقى ابنه في قلبه وروحه وجوهره ويبقى مع الأسرة الغالية في دمشق، وهو لا يدري إن كان في مأمن أو لا.
ولكنه يعلم ونحن نعلم أن المرجو من ذلك الفعل أن يتحرك سماحته ليصبح ضد سورية، لكن إيمانه بسورية لم يتزعزع وبقي هو هو، رافضاً كل الإغراءات التي رقصت بين قدميه… ولو كان سماحته من بداية توليه قد انحاز إلى جماعة أو فئة لكان الأمر مختلفاً… لكنه لم يفعل لأنه مختلف حقاً، وسيذكر التاريخ القادم أن سماحته من العلامات المضيئة النادرة التي لم نغتنم وجودنا معها.

المحاججة والإقناع

يعرف الجميع أن علاقتي بسماحته علاقة بنوة وأخوة، وليست علاقة مع عالم الدين، فأنا لست على وفاق مع ممارسات المؤسسة الدينية، وتعاملي الديني وفق النص لا الأشخاص… وهذه العلاقة أشرُف بها، فأنا لا يمر يوم لا أتحدث فيه مع سماحته إلا إذ كان على سفر، ولا تشرق نفسي إلا بلقائه شخصياً وهو الصديق والعالم الذي أتعلم منه… أقول هذا الكلام لأنه ضروري، ففي كل زيارة ولقاء هناك وفد أجنبي أو عربي أو مغترب، وما سمعت من سماحته تلوناً، فما يقوله للأميركي وقد حضرته يقوله للمقربين منه، وما يقوله للمغترب هو ما يقوله للمقيم، وما يقوله للمسيحي هو ما يقوله للمسلم.. وكثيرون هم الذين يسألونني وبخبث من معرفتهم بما يربطنا من ودٍّ وحب: أيفعل سماحة المفتي كذا؟ أيقول كذا؟ فأجيب ببساطة كما لو أنني أجيب من يستفسر دون نيات سيئة: إنه يفعل كل ما ترونه منه على الشاشة، ويقول كل ما تسمعون منه في أحاديثه… بعضهم يصدق وبعضهم لا، لذلك سأفصل في أمور مناقشته مع الآخر:
• لا يجلس سماحة المفتي مع أحد، وهو مستعد لإفحامه وإقناعه، وإنما يجلس معه ليسمعه أولاً، ثم يعرض هو ما لديه، وينتهي الحوار من دون رفع صوت، لأن الغاية ليست المحاججة والإقناع، بل الغاية هي أن يفهم الآخر ديننا، وأن نفهم رأيه.
لذلك لم أحضر له يوماً أي مجلس فيه شيء من توتر أو عصبية، بل ابتسامته تكسو وجهه ووجه الآخر الذي لا يقدر على مجاراة قناعاته وأدبه.
• لا ينطلق سماحة المفتي من سوء النية، فهو رجل ملك من السياسة والكياسة ما يجعله قادراً على تقبل تقلبات الآخرين، وقد حضرت لقاءات له مع أناس لا يحملون له من الود ما يحمل، وهو يعلم، وهو يجالسهم ويحاورهم بأدب جمّ، وبألقابهم الرنانة، وهو يعلم أنها ألقاب خلبية، لكنهم يحبونها، ولو انتهت هذه الجلسات كما بدأت تسمعه يقول: هكذا أمرني إسلامي ورسولي، وهذه مهمتي التي حملني إياها السيد الرئيس، فلو كنت أمارس شعائري ولا أحمل مهمة من حقي أن أتصرف بشخصانية ومزاجية، لكن ما أحمله يجعلني ملكاً للآخر ولو لم يكن يحمل لي الود، فالمهمة تكليف خارج حدود الحب والعاطفة.
في مرات عديدة كنت مع سماحته فأجده يقول: سمعت أن فلاناً فجع ويجب أن أكون معه، وقد رافقته في عدة زيارات، وبعض هذه الزيارات لأناس لا يعرفهم مطلقاً، وليسوا مسلمين، فإذا بنور عمامته يغطي المكان ويخفف من ألم المصاب، وكلماته تصبح بلسماً… أليست هذه مهمة عالم الدين والمفتي؟ أم مهمته أن يتصدر الشاشات ويهرف بما لا يعرف ويريد من الناس أن تهلل له؟ لم يطلب أحد من سماحته هذا الفعل، لكنه فعله فألف قلوباً، وطيب خواطر، وجبر كسر قلوب مكسورة… ولو نظرنا في العالم الإسلامي فلن نجد بين المفتين من يفعل هذا، بعضهم يفتي في الدخول باليسار أو اليمين إلى بيت الخلاء، وبعضهم يفتي في الموانع والواقيات، لكن مفتينا يفتي للحياة فهل يأتون بمثل هذا العقل النوراني؟
النص عمدته وأساسه

أسمع آراء هنا وهناك، وعندما أطلب من المتحدث دليلاً على ما يقول يصمت، فأعرف أن أشياخه الذين هيمنوا على عقله ومصالحه لقنوه هذا، ولعل الحادثة الأكثر شهرة التي حاول فيها أدعياء التدين النيل فيها من سماحته هي عندما حاورته إحدى الجرائد ووجهت أسئلة له، وكان عنوانها: الإسلام لا يقول بقتل المرتد، والمفتي يجيز التبني، فقامت الدنيا ولم تقعد، وأذكر يومها أنني توجهت إلى بيت الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي صاحب الفقه الإسلامي وأدلته، والتفسير المنير وعشرات الكتب، وبيني وبينه علاقة طيبة، وفي بيته في الميسات سجلت حواراً حول القضايا ذاتها، فكان الرأي الجازم بأن الإسلام لا يقول بقتل المرتد إلا لحرابته، أي إشهار حربه على الإسلام، وأن رعاية الأطفال واجب على المجتمع الإسلامي، فنشرته، وكان ما قاله الدكتور الزحيلي أقسى مما قاله سماحته، ولم يتعد سماحة المفتي النص عندما قال إن الإسلام يقاتل المرتد لحرابته فقط، ولو أنه يعاقب على غير ذلك لتم قتل أغلب المسلمين، أما مسألة التبني التي سماها سماحة المفتي (التبني التربوي) وهو الذي لا يسمح بمحرّم ولا يورث، فقد سماه الدكتور الزحيلي الرعاية، وخلصت إلى أن من انتقد رأي سماحته كانت عينه على المنصب والإفتاء والحضور، ولم تكن عينه على النص، وعندما يستشار شخص بمكانة الدكتور الزحيلي فقهاً وورعاً ينتهي كل حوار.

سماحة المفتي والمرأة

لعل هذا الجانب من أكثر الجوانب ظهوراً في شخصية سماحته، فهو متأثر بالسيدة الوالدة رحمها الله، وقد خصها بعدد من الحوارات المرئية، وألقى عنها أكثر من محاضرة، ولا يخلو حديث من أحاديثه عن أمه المرأة، وعن اعتداده بدور المرأة الأم والمربية القادرة على إنشاء جيل ووطن.. وخلال هذه الفترة الممتدة لم أسمع منه انتقاصاً لامرأة في موقع أو غير موقع، بل كنت أشهد على احترامه الكبير للقامات من النساء، وأشهد انحناءه أمام أمهات الشهداء، وطلباته من أجل زوجات الشهداء وبناتهم، وربما كانت هذه النظرة التي تحمل الاحترام للمرأة قد أسهمت في إغاظة من لا ينظر إلى المرأة إلا على أنها جسد..، وحده بين العلماء والمفتين يتحدث عن المرأة بندية واحترام، ويستشهد بالنص المقدس على مكانتها، ولا يقبل أي تصرف ينال من مكانتها، والذين طلبوا رأيه وفتواه في هذا المجال سمعوا كلاماً عالياً ينسجم مع النص، ويترفع عن أن تكون العادات والعصبيات هي الراسم لعلاقتنا بالمرأة.

الحضور والتأثير

إنه عطاء يخص به من شاء من الناس، الحضور والتأثير والجاذبية، وكل ذلك جاء مع سماحته مترافقاً مع العلم، ومع فهم حقيقي للدنيا، بعيداً عن الزهد والدروشة التي يمثلها الكثيرون ولا يعملون بها، فابتسامته حلت مكان التجهم، وإشراقه الإيماني حل مكان الوجه الذي لا رحمانية فيه ولا نور، وفيض علمه وفصاحته وإيمانه أسبغ طمأنينة على حضوره، وأناقته المفرطة التي تحسدها أهم الشخصيات، كل هذا مكن لسماحته في قلوب المتلقين، حتى من الذين يقفون خصوماً، يأسرهم ويحسدون حضوره المؤثر والقادر على الإقناع.
ما من أحد مهتم لم يطلع على محاضرته في الاتحاد الأوروبي، وقد انتشر هذا الفيديو كثيراً، وأسهم في نشره الانتقاد، فكيف يتحدث عن كل الشرائع؟ وكيف يقول ويقول؟ وشريحة أخرى رأت وقرأت وسمعت لتتمتع بالطريقة التي تسلل فيها سماحته إلى عقول وقلوب البرلمان الأوروبي، وكلهم من حيتان السياسة والفكر.. وعلينا كسوريين بالدرجة الأولى أن نفاخر ونباهي بهذه الشخصية الكاريزمية النادرة في الأوساط الدينية على اختلاف الشرائع والمذاهب والطوائف، علينا أن نفاخر أن سورية أنجبت هذا التنور الذي لم يتنازل عن نصه وثوابته، وعن زيه الذي خرج به من حلب، وليس زي الإفتاء.. كان مشايخ سورية يمارسون انتقاداتهم لكلمة أو تعبير بينما كتب أحد الكتاب المصريين، وهو إبراهيم سعدة يرجو في الإعلام المصري بعد لقاء سماحته في البرلمان الأوروبي دوراً لمفتي الديار المصرية يقترب مما يقوم به مفتي الديار الشامية.. ونلاحظ أن إبراهيم سعدة رأى سماحة المفتي العام مفتياً للديار الشامية، بل رأى كثيرون أنه يجدر أن يعبر عن الإسلام عوضاً عن المفتين!
من المؤكد أن المصادفات القدرية جمعتني بسماحته قبل ثلاثة عقود، وقويت أواصر الصداقة الطيبة، فكنت شاهداً على لسانه وأحاديثه وجلساته، ولم يغب عني سوى ما يغيب من خصوصية ليس من حق أحد أن يتعرفها، ولكن الملازمة الطويلة كفيلة بأن تستخرج من الإنسان ما يكتمه عن الآخرين ولكنني في كل يوم أجد أن عقله هو قلبه وروحه ولسانه.
طاب علمك وشخصك سماحة المفتي الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون أبو الأديب الذي امتلأ علماً وفقهاً وحياة وانتماء وفهماً للجوهر، وكل ما يتمناه المرء أن يستفاد من هذه الطاقة العظيمة التي رافقت أقسى الظروف والأوقات فانتصرت للدين والإنسان والوطن، وحسبنا أن نستثمر كل هذه الطاقة بعيداً عن أي رأي يوزع جهودنا ويشتت قدراتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن