قضايا وآراء

العرس في «أستانا» والطبل في «الشمال السوري»: لا تدعوا قطار التائبين يفوتكمفرنسا – فراس عزيز ديب

انتهى اجتماع «أستانا6»، والذي حملَ بيانهُ الختامي وتصريحات رؤساء الوفود المشاركة فيه روحاً إيجابية حول إمكانية الالتزام بالنقاط التي تم التوافق عليها، تحديداً أن البيان الختامي تحدث عن الالتزام بـ«استقلال وسيادة ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية».
لكن وإن كنا نعتبر أن هذا «الأستانا» الأنجح من بين «الأستانات» السابقة، إلا أنه ظُلم إعلامياً وشعبياً بتزامن انعقاده مع الحملة التي يشنّها السوريون على المناهج المدرسية الجديدة، وهي حملةٌ محقة بمعظم تفاصيلها، نظراً للأخطاء الفادحة الموجودة فيها والتي لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن نسوغها من منطلق «أخطاء فردية»، تحديداً أن واضعي المناهج من المفترض أنهم يمثلون الصفوة من الخبراء في المجال الأخطر في تكوين بناء المجتمع وهو التربية والتعليم، وهي أمور تستحق لفتة أكثر مسؤولية واهتماماً من قبل وزارة التربية، كي لا تجعلنا نشعر وكأنها آخر المعنيين بالأمر، لأننا عملياً لا نريد لبعض التفاصيل أن تكونَ نقاطاً سوداء في صفحة الانتصارات السياسية والعسكرية التي تتحقق، فكيف ذلك؟
في الأسبوع الماضي قلنا إن ما يجري من حراكٍ سياسي على المستوى الدولي قد ينعكس على كل ما يمت بصلةٍ للاجتماعات المتعلقة بإيجاد حلٍ سياسي لما يجري في سورية، لكن الانعكاس الايجابي ليس وفق ما يتمناه أصحاب العقول المؤجَّرَة، هذا الأمر تجسد واقعياً في اجتماع «أستانا6»، وقد لا نبالغ أن قلنا إن هذه النبرة التراجعية الناتجة عن الصمود السوري ونجاحات الجيش العربي السوري والحلفاء، وبعض الأسباب الداخلية المتعلقة بكل دولة من هذه الدول سيكون الامتحان الحقيقي لها هي اجتماعات جنيف القادمة.
ربما أن أهم ما أنجزه «أستانا6» هو الإعلان عن ضم إدلب لمناطق خفض التصعيد، تحديداً أن هذا الأمر بدا قبل أسابيع أو أشهر ضرباً من الخيال بلسان مسؤولي الدول الفاعلة على الساحة السورية ذات أنفسهم، فعلى سبيلِ المثال نتذكر تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى «التحالف الدولي» برت ماكغورك مطلع آب الماضي، عندما وصف إدلب بأنها أكبرَ معقلٍ لتنظيم القاعدة في العالم منذ هجمات 11 أيلول، حتى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اعترف في أيار الماضي بصعوبة المهمة لأن الوضع في إدلب معقد كثيراً، هذه المعطيات تجعلنا نطرح سؤالاً منطقياً، ما الذي تبدل حتى أصبح الاتفاق ممكناً، بل هناك من يتحدث عن ضمانات لنجاحه؟!
في الواقع على الأرض فإن شيئاً لم يتبدل، فلا جبهة النصرة أعلنت تبني نظرة الفيلسوف الفرنسي مونتسيكيو في بناء النظام السياسي للدولة التي ينشدونها، ولا باقي التنظيمات المرتبطة بها والعاملة تحت لوائها رفعت شعار: «يا عمال العالم اتحدوا»، حتى ما حُكي عن مناوراتٍ تكتيكية قام من خلالها الأتراك بسحب المقاتلين التركمان والأجانب، واستقالة شرعي الهيئة المجرم عبد اللـه المحيسني بهدف إعادة تلميع صورة الجبهة وما تبعها من عمليات تصفيةٍ داخلية تبدو كأنها نتيجة لما جرى وليس سبباً له، وبمعنى آخر: إن التعقيد المتمثل بوجود جبهة النصرة كإحدى أهم الفصائل الإرهابية المسيطرة على المدينة، لا يزال على حاله ولم يتبدل، حتى إن الجميع يفكر بهذه المشكلة ويتناسى أن هناك مشكلة أعقد من مشكله ذوبان جبهة النصرة ضمن المدينة ألا وهي، من البديل؟
تبدو الخيارات هنا بمعظمها ضيقة وليست منطقية، فإذا افترضنا أن «النصرة» انشقت على نفسها بمسرحيةٍ ما، من أجل إفساح المجال لظهور تنظيمٍ جديد على أنقاضها لا يتبنى بيعةَ تنظيم القاعدة الإرهابي، عندها سيكون السؤال ما مصير الجناح المنهزم الرافض للتسوية، تحديداً أننا نتحدث عن خلفيات راديكالية متطرفة لا يمكن العودة بها لجادة الاعتدال بالسهولة التي يتصورها البعض؛ عندها سنكون حُكماً أمام مواجهةٍ حقيقيةٍ على الأرض، وسقوط كل ضمانات التهدئة.
أما لجوء الأتراك لفرضية الدفع ببقايا ما يسمى ميليشيا «الجيش الحر» للدخول في مواجهةٍ مع جبهة النصرة، فهو أمر أشبهَ بالنكتة السمجة لأن الجميع يعرف بمن فيهم الأتراك أن ميليشيا «الحر» عبارة عن كذبةٍ إعلامية أطلقها «دهاة العصر» وصدقها الأغبياء، عندها قد نذهب باتجاهٍ أخير وهو التحول لدعم « حركة أحرار الشام الإسلامية» كفصيلٍ قادرٍ نسبياً أن يصمد في وجه الجبهة، لكن حتى هذا الأمر يبدو فيه تداخلات ليست منطقية والقضية بسيطة: الجميع يعرف أن هذه الحركة سعودية الهوى، فهل سيسمح الأتراك والقطريون لأنفسهم بالتخلي عن جبهة النصرة لصالح من يمثل اليوم «عدوهم اللدود»؟
منطقياً فإن الجواب ببساطة لن يسمحوا، تحديداً أن المشاكل الخليجية الخليجية اليوم دخلت منعطفاً هو الأخطر، فإن يصل «آل سعود» لمرحلةٍ يعلنون فيها الدعم الكامل لانعقاد مؤتمر المعارضة القطرية في الخارج، هو ليس بالحدث العابر، بل هي البداية لا أكثر، ولعل أهم ما سيتبعها في الأشهر القادمة هو الرد القطري، بمؤتمرٍ لـ«المعارضة السعودية»، وهذا الأمر إن تجرأت قطر وأنجزتهُ سيكون «ماركة مسجلة» باسمها لأنها عملياً ستكون قد أنجزت ما تجنبهُ جميع من يتعارضون في السياسة والمصالح مع «آل سعود»، هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن اجتماع «المعارضة السعودية» حول العالم سيكون له ضجيجٌ أكبر بكثير من اجتماع مجموعةٍ من القطريين بمسمى «المعارضة القطرية».
بالخلاصة فإن الطرفين لا يوفران ساحةَ مواجهة ليضرب أحدهما الآخر، فكيف لنا أن نصدق أن يتخلى طرف ما عن أوراقه؟
هنا يمكننا القول: إن من وضع الاتفاق كان يعي تماماً أنه سيفشل، وسيضع الطرف الضامن للتنظيمات الإرهابية في خانة اليأس، لكن ما يميز اتفاق إدلب عن باقي الاتفاقات، أن الفشل بالنهاية هو انجاز حقيقي، لأنه سيتيح عملياً تسهيل عمليةٍ عسكريةٍ بقيادة الجيش العربي السوري هدفها تطهير المدينة من بقايا «النصرة»، ومن يحمل معها راية التطرف، فهل يعني هذا الكلام أن هناك تراجعاً تركياً بنسبة 180 درجة لكي يتخلى نظام «العدالة والتنمية» عن آخر أوراقه السورية؟
لعل حنكةَ الحلف الروسي السوري الإيراني أوصلت النظام التركي لنقطةَ أن يكون هذا التراجع حاجة أكثر منهُ رغبة، وبمعنى آخر: إن النظام التركي أُجبر على التراجع ولم يتراجع، وهذا يعني أنه جاهز مع أي مفترق طرق أن ينقلب على كل شيء، لكن يبدو أن الوقت قد فاتهُ تحديداً أن التفاهمات في أستانا ممهورة وبشكلٍ غيرَ مباشرٍ بختم الرضا الأميركي الذي قد يتجسد بلقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي ريكس تيلرسون، بل إن هذا التفاهم قد يتعداه ليشملَ مناطق جديدة.
من جهةٍ ثانية فإن النظام التركي كان ولا يزال تائهاً في رحلة البحث عن خياراته الدولية، هذا الأمر يعود بنا للولاية الأولى للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما نصح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن يتجه شرقاً وجنوباً لأن أبواب الاتحاد الأوروبي ستبقى مقفلة بوجهه، ويومها استطاع كسب الرضا السوري باتفاقات كان بعضها مجحفٍ بحق السوريين أنفسهم، وجعلَ سورية بوابةَ العبور نحو الشرق وكانت النصيحة بمكانها، لكن بعد ما استجد من «ربيع الدم العربي»، هناك من لعب مع نظام «العدالة والتنمية» التركي لعبة العصا والجزرة بمسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي، لأنهم كانوا بحاجةٍ إليه بما يتعلق بالملف السوري.
اليوم بات النظام التركي يبحث عن ذاته في واقعه المحاصر فليس من السهل مثلاً أن يصل الأمر بالحكومة الألمانية أن تقول إنها تدرس إضافة تركيا لقائمة دولٍ تشكل خطراً أمنياً كبيراً على أمنها، لكن بذات الوقت ليس من السهل أن يعلن رأس النظام التركي عن شراء منظومة صواريخ «إس 400» من روسيا، تحديداً أن تركيا كانت ولا تزال دولة من دول الناتو، أي إن التركي بات جاهزاً اليوم ليتخلى عن كل شيء لأن الخيارات باتت شبه معدومة، فماذا ينتظرنا؟
لا يختلف أحد على أن التراجعات لها الكثير من الأثمان، قد نتجه لفرضية أن أردوغان قبض الثمن مسبقاً لمجرد إعادة بث الروح في نظامه من قبل الإيرانيين والروس، لكن العين تتجه شمالاً، حيث هناك من لا يريد أن يفهم الدرس، وإذا كان المثل الشعبي يقول: «العرس بحرستا والطبل بدوما»، فعلى البعض أن يدرك أن من اجتمعوا في أستانا كان عرسهم في إدلب، لكن الطبل حكماً سيُقرع في مكانٍ آخر حيث لا ينفع معه «استبدال لوحات السيارات» ولا «استفتاء استقلال» فهل سيتعظون؟
لا نعتقد ذلك فالمصيبة ليست بأن يكون صاحب القرار عبارة عن ورقة لا يتدارك ببراغماتية ورشاقة سياسية نفسه قبل أن يحترق، المشكلة عندما لا يشعر بنفسه أنه ورقة، بل لاعب إقليمي.
فعلاً تستحقون الشفقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن