ثقافة وفن

دمشق امرأة بسبعة مستحيلات

| إسماعيل مروة

عندما بدأت الأحداث في سورية، وقبل أن تنجلي حقيقة الحرب القذرة التي تجري على أرض سورية العظيمة، كنت مشاركاً في ملتقى في الإمارات العربية المتحدة، وفي أبو ظبي تحديداً، وفي اليوم الأخير من الملتقى بدأت الأحداث تتسارع، وفي الفندق بقيت على مدار الساعة أتابع ما يجري من أحداث سياسية ومن أحداث على أرض الواقع.. وحين أعلنت حزمة الإصلاحات السريعة التي أطلقها السيد الرئيس، وضمنها رفع حالة الطوارئ، وإقالة الحكومة، استبشرت خيراً.. وبينما كنت أنتظر موعد طائرتي زارني صديق دبلوماسي إماراتي، وجلسنا نتحاور ساعات من زمن، وعجب أشد العجب من صحتي، فأعرب عن استعداده لتدبر أمر بقائي لو أردت، ووعد بأنه سيبذل جهداً لذلك، وإن لم يجزم بنجاح مساعيه، لكنه سيحاول، وأذكر أنني قلت له: إن المشاهد التي تعرضها القنوات هي في منطقتي السكنية، ولا أتمكن من رؤية التلفزيون السوري لأنه محجوب في الفندق! وبالمناسبة فإن القنوات السورية لا تقدمها لك أي مؤسسة فندقية بما في ذلك لبنان الشقيق القريب..! وأضفت إن ما تعرضه الجزيرة والعربية هو في منطقتي السكنية، وهؤلاء هم أهلي، ويجب أن أكون معهم، يصيبني ما يصيبهم إن كان حقيقة، وأعيش معهم إن كان الأمر غير حقيقي، وما سمعته من سلة الإصلاحات يدفعني للتفاؤل.. سخر مني ذلك الصديق وقال: ألا ترى أصدقاءنا، فلان وفلان وفلان خرجوا من السلطة، وها هم اليوم في صف الشعب والمعارضة؟ كان عدد من أصدقائه غير المشتركين أصبحوا معارضين، فأوضحت له أن هؤلاء لم ينسحبوا من النظام، وإنما تحولوا إلى المفيد بعد أن أخرجوا من السلطة وأعفوا من مناصبهم.
وعند الحديث عن الإصلاحات قال كلمة واحدة بالإنكليزية أحفظها (توليت) تأخرت الإصلاحات كثيراً، ولن تجدي شيئاً لأنها جاءت متأخرة.. وما بين رهانين كنت قد حزمت حقائبي ووصلت إلى دمشق، ومن مطارها إلى منطقتي، كان الجو هادئاً ويخالف كل ما رأيته في القنوات، وكل ما سمعته من صديقي الدبلوماسي المخضرم.. لم تنقطع هواتف صديقي، وفي كل مرة كان يعرب عن تعجبه من لهجتي وحديثي المتفائل، وأنا أقول له: أنا ممتاز ورائع، والحياة تسير في الشام بهدوء، وإن كان متسماً بالحذر في بعض الأوقات، ثم ساد الصمت، ولم أعد أسمع هاتفه، إلا من بعض السلامات عبر وسائل التواصل.. وبقي الأمر كذلك إلى مساء يوم الخميس الفائت، وجدت رسالة مطولة منه، وحين قرأت هذه الرسالة وجدتها نصاً للشاعر العراقي الكبير مظفر النواب. الشاعر الذي عاش في دمشق أياماً لا تنسى، ولم يغادر دمشق إلا مكرهاً بالمرض المضني، وقد شرفت بالجلوس إليه وسماعه مرات في نوادي دمشق، ولأن مظفر النواب يحب دمشق الشام حباً صادقاً صافياً، فقد قرأها غير ما قرأها المسؤولون السوريون الذين تحولوا إلى خصوم سورية عندما أعفوا عن مسؤولياتهم! النواب لم يكن وزيراً أو مديراً في سورية، ولم توفده سورية!
ولم تجعله مديراً لمركز ثقافي يتقاضى بالعملة الصعبة! ولم يكن سفيراً لها يتقاضى بالعملات الأجنبية!
الشام أعطت مظفر النواب مكاناً ومستراحاً وحباً، منحته وجوهاً وكأساً وهدوءاً، منحته ملاذاً فكان عاشقاً، وشتان ما بين عاشق ومنتفع، لذلك قال في الشام ما قال، وما قاله بدأ الناس يتداولونه عبر وسائل التواصل حين وجدوا سورية بدأت بالتعافي وفق الإصلاحات.. ولأن رسالة مظفر النواب تختصر كل شيء أجدني أدوّنها كما أرسلها الصديق الإماراتي، أرسلها من دون أي تعليق:
شقيقة بغداد اللدودة
ومصيدة بيروت
جسد القاهرة، وحلم عمّان
ضمير مكة، غيرة قرطبة
مقلة القدس، مغناج المدن
وعكاز التاريخ لخليفة هرم
إنها دمشق
امرأة بسبعة مستحيلات
وخمسة أسماء وعشرة أ لقاب
مثوى ألف ولي، ومدرسة عشرين نبي
وفكرة خمسة عشر إله خرافي
لحضارات شنقت نفسها على أبوابها
إنها دمشق الأقدم والأيتم
ملتقى الحلم ونهايته
بداية الفتح وقوافله
شرود القصيدة، ومصيدة الشعراء
دمشق التي تتقن كل اللغات
ولا أحد يفهم عليها إلا الله جل شأنه وملائكة عرشه
دمر هولاكو بغداد وصار مسلماً في دمشق
حرر صلاح الدين القدس وطاب موتاً في دمشق
لديها من العشاق ما يكفي حبر العالم
من الأزرق ما يكفي لتفرق القارات الخمس
لديها من المآذن ما يكفي ليتنفس ملحدوها عبق الملائكة
ومن المدافئ ما يكفي لتشحير وجه الكون
لديها من الصبر ما يكفي لتنتشي بهزة أرضية
ومن الأحذية والشحاحيط المعلقة في سوق الحميدية
ما يكفي للاحتفال بجميع قارات العالم
لديها من الجبال ما يكفي لنشر الغسيل الوسخ للعالم أجمع
ومن الشرفات ما يكفي سكان آسيا ليحتسوا قهوتها
ويدخنوا سجائرهم على مهل
دمشق هي العاصمة الوحيدة في العالم
التي لا تقبل القسمة على اثنين
في أرقى أحيائها تسمع وجه الطبالة
وفي ظلمة حجرها الأسود يتسلق كشاشو الحمام كتف قاسيون
ليصطادوا حمامة شاردة من المهاجرين
دمشق لا تقسم إلى محورين
فليست كبيروت غربية وشرقية
ولا كما القاهرة أهلاوي وزملكاوي
ولا كما باريس ديغولي وفيشي
ولا هي مثل لندن شرق وغرب نهر التايمز
ولا كمدن الخليج العربي مواطنون ووافدون
ولن تكون كعمان فدائيون وأردنيون
ولا كبغداد منطقة خضراء وأخرى بلون الدم
دمشق مكان واحد
فإذا طرقت باب توما ستفتح لك نافذة من باب الجابية
وإذا أقفل باب مصلى فلديك مفاتيح باب السريجة
وإن أضعت طريق الجامع الأموي
ستدلك عليه كنيسة السيدة
لا تتعب نفسك مع دمشق ولا تحتار
فهي تسخر من كل من يدعي أنه يحميها ومن يهدد بترويضها
فتود أن تعانقها أو تهرب منها
ونقول: جملة واحدة للجميع
إنها دمشق
أرسل لي صديقي هذه الكلمات بتوقيع مظفر النواب، ولم يستهلها بسلام، ولم يتبعها بتعليق ولو كان صغيراً، فهل اختار أن يرسل هذه القصيدة الطافحة بشموخ دمشق وقاسيون ليعتذر عن عدم معرفته بدمشق؟ أم أراد أن يقول: لم أفهم الشام التي جعلت أبناءها يعودون إليها ولا يخرجون منها؟ هل أراد أن يقول: ثمة فرق بين العشاق والمصلحيين؟
المهم في الأمر أن انقطاع التواصل لم يكن مفاجئاً، والاعتراف بأن الشام عصية ولا تشبه غيرها لم يكن مفاجئاً أيضاً.
شكراً لمظفر النواب عند كل قطرة ماء شربتها في الشام..
شكراً لوفائك لكل طاولة شهدت جلساتك..
شكراً لكل منبر استقبل بحة صوتك النادرة..
لقد كنت أهلاً لحب الشام، ولم يضع حبها لك واحتضانها لقوافيك، وكنت كما كان أبو الفرات الجواهري، وكما أصالة نزار قباني والزركلي وبدوي الجبل. كنت كبيراً في وقت تناسل فيه الصغار وغطوا أرصفة الشوارع..
من قاسيون يأتيك جواب الشكر لأنك عرفت دمشق أكثر مما عرفها الدخلاء، ولو حملوا في هوياتهم قيد نفوس سورياً..
وشكراً لصديقي أن أرسل النص كاملاً وشكّل اعتذاراً عن آرائه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن