ثقافة وفن

عن الغياب وسر الغياب

| إسماعيل مروة

يردد كثير من المبدعين والمفكرين ورجال الدين كلمة الغياب، ويردد العاشقون كلمة الغياب مشفوعة بكثير من الألم والشكوى، والفرق كبير بين رؤية كل واحد لفكرة الغياب، فقد يكون الغياب ساكناً في الغيب لدى شرائح من العلماء والناس، وهذا السكن في الغيب يكون مرجواً، ويكتسب هذا الجانب أو ذاك مشروعية الفكر من الغياب، الذي يبني عليه أسباب فلسفة الانتظار، ومن ثم عليه تبنى آليات السيطرة والهيمنة على الناس الذين يشاركون هذه الرؤية في الغياب.. والغياب كما حدده الكتاب، وخاصة في علم المجتمع والفلسفة قد يأخذ مناحي متعددة، ولعل أولها وأقربها إلى الذهن فكرة حضور أحدهم الفاعل في حياتك ثم غيابه فجأة عنك، سواء كانت العلاقة التي تربطك به علاقة أسرة أو عمل أو حب أو غير ذلك، ويكون الغياب لسبب فيزيولوجي هو الوفاة، وقد يكون لأسباب أخرى.. ويجمع الكتاب على أن غياب الموت والفيزيولوجيا هو أسهل أنواع الغياب، لأنه يطوي معه صفحة كاملة بسلبياتها وإيجابياتها، والإشفاق على الغياب يدفع الذي بقي بعد الغياب إلى الغفران والصفح والترحم، وقليلة هي الحالات التي خلف الغياب الفيزيولوجي ألماً ممتداً، ونذكر هنا الخنساء وليلى الأخيلية، لكن سرعان ما تنتهي هذه الحالة عن الغياب وتعود الحياة إلى طبيعتها، فالذي بقي يحيا ويأكل ويحب ويرتبط، وقد تعود إليه ذكرى الغائب، وقد لا تعود مطلقاً، ويدخل في عالم الرحمات بعد أن ابتلعه الغياب.
ويشكل شعر الرثاء ميداناً رحباً لفلسفة الغياب للأحبة، سواء كان الغائب ولداً أم زوجاً أو زوجة أو أباً أو أماً أو أي شيء تعلق به الإنسان مدة من الزمن، ولو قرأنا القصائد والأقوال سنجد عاطفة محزنة، فهذا يقسم أن الحياة مستحيلة، وذاك تصدع كبده، وثالث انفرط عقده بعد أن قصد الموت واسطة العقد، وآخر يرى أن الأنوثة مستحيلة، ويرى أن الدواة جفت من الحبر وامتلأت دمعاً يفيض ليكتب قصة، وتلك تقسم إنها لا تنفك تبكي..! وعندما نقرأ أي نص يجب أن نضعه في شرطه، وعندما نحضر مثل هذا الغياب من المفترض أن نحاكمه بشرطه الموضوعي، لأن استمرار خطي الحضور لمن بقي، والغياب لمن غاب يجعل هذه اللحظة آنية قابلة لأن تتغير بين لحظة وأخرى.. فالأم الثكلى لن تنسى، لكنها ستتابع، وستفرح لأولادها وأحفادها الباقين، والزوج سيلتقي بمن يرتبط، والمرأة ستفعل الفعل نفسه، وكل واحد يجد لنفسه مسوغاً للمتابعة، فهذا يرى أن الحياة تستمر، وهو أعلى رأي وأكثره قرباً للمنطق، وذاك للخدمة، وآخر للأولاد، وآخر للسترة.. ووو!! والسبب الوحيد المقنع هو أن الحياة تستمر ومن غاب غاب.. ولأن الغياب هاجس الإنسان، فإن أكثر سؤال يتبادله المرتبطون هو هل ستكمل مع إنسان آخر بعدي؟! ويتبادل الاثنان الأيمان والوعود، وكل ما يتم تبادله من باب جبران الخاطر حتى لا أقول الكذب، فلا الأنوثة مستحيلة، ولا الرجولة مستحيلة، وكل شيء جائز في حضور الطرفين، فما بالنا في الغياب؟
وهذه المسألة المتعلقة بالغياب ليست وليدة اليوم، فقد أغرم بها الإنسان وشكلت لديه عقدة النهاية، والأكثر عقلانية هو الذي لا يطرح سؤال الغياب نهائياً، ولكن من يطرحه يطرحه بدافع أنانيته، ويفترض الإجابة وإن لم تكن صحيحة، وإن لم تتجاوب مع رأيه، فهذا شاعر يتمنى لزوجته بعد رحيله بعلاً يحبها، وهو غير صادق حتماً، وذاك هدبة بن الخشرم الشاعر العذري، تلمس زوجته معاناته عند احتضاره من أن تحب زوجته سواه بعد رحيله، فتقوم – كما تقول الحكاية- بجدع أنفها لتطمئن حبيبها، فرحل مطمئناً من أنها لن تعيش مع رجل آخر بعده.
وتختص مجتمعاتنا بنقائص الغياب والحضور مثلاً، فقد يفترق زوجان، ولكن أحدهما يذهب لممارسة حياته كما يريد، ويمنع الآخر، وخاصة المرأة من أن تلتفت إلى حياتها! أرأيتم حالات من الرجال، التي تتابع المرأة بعد طلاقها لتفصلها وتمنعها من أن تكمل حياتها؟ إن كنت بهذه الغيرة والحرص لم انفصلت عمن تحب؟ يقول لك: لا أحبها، ولكنها أم أولادي، ولا أتخيلها زوجة لإنسان آخر فهي لي، ويجب ألا تكون لسواي!
والولد يغيب وسوط أبيه فوق رأسه، وهكذا تشكل فلسفة الغياب في مجتمعاتنا أسلوب حياة قد يسأل أحدهم: وهل يستحق الغياب هذا الحديث المتشعب؟ نعم لأن الغياب في جزء منه عاطفي أو وصائي أو عقيدي، وهو المؤثر الأكبر في حياة الإنسان والأسرة والمجتمع، وما تعيشه سورية اليوم من حرب أظهر لنا أن فلسفة الغياب هي المؤثر الأكبر في حياتنا، وأنا أعرف أكثر من ست حالات للغياب المؤقت فهذا شدّت زوجته الرحال وأخذت الأولاد حفاظاً عليهم، وهو ساعدها بالخروج، فصارت في مكان وهو في آخر، وهو يجمع ويرسل لها المال، وهي لا تفتأ تطلب المزيد، وبعد مدة قد تطول وقد تقصر يكتشف أن زوجته قد طلقته حقيقة أو جسداً وتعيش حياتها وتستنزفه، فيعود إلى نفسه حزيناً يمارس بكائياتها، وقد تكتشف هي أنه ساعدها في السفر للبقاء في حياته التي يحبها، وتشكل هي العبء الأكبر عليه.. وقد أفرزت لنا الحرب على سورية حالات مرضية لا حصر لها، والذي أظهرها هو الغياب، وقد يكون الغياب مجهولاً لم يلبث من بقي بعد الغائب أن عاد إلى حياته الطبيعية تحت قاعدة «الحي أبقى من الميت» فالبعد يحكم حياة أحدنا، والغياب متحكم أهم، لذلك لحظة الفقه في التفريق بسبب البعد والهجر الذي يتجاوز حداً يحتمله الإنسان، وهو المسموح به شرعاً، ولو لم يكن الغياب بهذه الدرجة من التأثير ما تم خصه في الفقه اعتماداً على قدرة الإنسان على العفة والصوم، وذلك في الإطار المؤسسي الشرعي والذي يحرص على تطبيق نظرية الغياب أكثر هو الرجل بطبيعة المجتمعات الذكورية، فهو الذي يحق له أن يمارس الغياب والوصائية في الوقت نفسه، بل ويدافع عن حقه هذا بنصوص مقدسة أو قريبة من القداسة، وهو يعلم في قرارة نفسه أن النص المقدس مقدس، لكنه في وادٍ وهو في وادٍ آخر! ويبقى كذلك إلى أن يأخذ ما يشاء، ويمل وينتهي مفعوله، ولا يبقي من رحيق في الزهر، ليلجأ إلى المقدس ليسوغ فصلاً آخر له ولنفسه.. بالأمس حدثني أحد الأصدقاء في هذه المسألة، وراجعت ما أعرف من حالات فرضتها الحرب على سورية، وسواء كان البعد والتشتت الاجتماعي بسبب هجرة داخلية قسرية، أم هجرة خارجية قسرية أو طوعية، عرفت أن التشظي الذي حدث نتيجة الحرب له عقابيل لا تقف عند وقت محدد، ولا تنتهي آثارها بانتهائها، وينقسم الرأي بأن الحرب هي السبب، أو بأن الإنسان هو كذلك، لكن الحرب أعادته إلى حقيقته، وكلا الرأيين غير صحيح، فالطبع لدى الإنسان يؤثر حتماً، لكن التربية والمجتمع يسهمان في التغيير، وإلا ما اقتنعنا بتحول رابعة العدوية من الغناء إلى العشق الإلهي، ولكن من ينكر أثر الحرب في كل ما حصل، فهو خارج إطار الزمان والمكان، فهو إما مكابر، أو أنه إنسان لم يكتو بشيء، ويقوم بإعطاء الوصفات الجاهزة والأحكام الجائرة، فهو لم يجد نفسه تحت سطوة الغرباء، وهو لم يجد نفسه بلا بيت، ولم يجد نفسه بلا معيل، ولم يجد أن أسرته صارت هباء. والأحكام لا تؤخذ إلا ممن عاش التجربة وعاينها وعانى منها، أما قال نزار «ومن رأى السمّ لا يشقى كمن شربا»؟!
أدع أنواع الغياب التي قد تدخل في العقيدة والرأي، فلها فلسفة أخرى، وأنا أتحدث عن الغياب والذي أستطيع استيعابه.. وأختم بالغياب غير المرئي، فأحدنا يمضي جزءاً من حياته، قد يطول، يعيش ويتعلم ويأكل ويشرب ويؤسس مؤسسة، وعند كل إغفاءة واستيقاظة يأتيه منظر لم يشهده حقيقة، ولم يلتق به، وهو غياب لما يحلم به المرء، ولا يغادر أحدنا الدنيا من دون أن يحظى بالحلم، وينتفي الغياب، وقد يتمنى أحدنا لو بقي الحلم غائباً غائماً، لأنه يغير كل ما في حياة أحدنا، وربما دفعه إلى مراحل متقدمة من الجنون، وقد يندم أحدنا لتأخر هذا الحلم في الوصول، فقد زرعه على شرفة الإبداع والتألق، ولعل أهمها اكتشاف الذات، واكتشاف الذات هو أهم ما نستخلصه من الغياب، فعندما يكون الغياب قبلياً أو بعدياً يكتشف المرء منا حقيقة ذاته ونفسه من دون تكأة على الآخر، وإن كانت هذه التكأة وهمية… الدخول بوعي في الغياب يجعل واحدنا مجتهداً ليكون بذاته، ومغروراً ليحقق بذاته… وقبل عشرة قرون وأكثر قال جدنا المتنبي:
ولست بقانع من كل فضل
بأن أعزى إلى جدّ همام
الغياب وحده يضعنا بصورة إجبارية أمام ذواتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن