ثقافة وفن

جول جمّال البحار الذي صار حكاية بطولة سورية

| عماد نداف

عندما لطم البحار السوري جول جمّال البارجة الفرنسية جان بارت بروحه عام 1956 فدمرها، كشف عن حقيقة مهمة جداً هي قوة الروح في مواجهة الظلم والعدوان، وحلاوة فعلته أنها تقوم على مبدأين مندمجين معا، الوطن وعمقه العربي، فقد قدم روحه فداء لمصر لأن مصر في عقيدته جزء من أمة تنتمي إليها بلده سورية!
اندفعتُ للتعرف على جول جمّال منذ وقت طويل، فقد كنتُ طالبا في ثانوية تحمل اسمه في قلب دمشق، ومن الطبيعي أن يتعرف الطالب على صاحب الاسم الذي تحمله مدرسته، وهكذا تعرفت عليه كبحار سوري شهيد من اللاذقية أوفد إلى مصر لإجراء دورة على زوارق حربية جديدة وصلت إلى هناك عام 1956 عندما وقع العدوان الثلاثي عليها، فشارك متطوعا مع البحارة المصريين في صد العدوان واندفع بزورقه ليدمر البارجة الفرنسية جان بارت، وهي واحدة من البوارج الضخمة التي كانت تهاجم مصر!
وعندما كبرتُ وصرتُ صحفيا وكاتبا، اكتشفتُ أن كثيرين يعرفون اسمه ولا يعرفون حكايته، فقررت أن أقدمه بطريقتي عبر توثيق حكايته تلفزيونيا. وببساطة وجدت نفسي أتجه إلى بيته بعد خمسين عاماً على استشهاده، وهناك تعرفت على شقيقه عادل جمّال الذي مثّـل دوره في فيلم عمالقة البحار مع ناديا لطفي وأحمد مظهر، ووجدته في بيته ودودا كريما يشبه جول جمّال لو أنه عاش إلى هذه اللحظة، وكان لعادل جمّال ولدان جول ويوسف تعرفت عليهما تلقائياً، كذلك تعرفت على شقيقة جول جمّال المربية دعد جمّال التي اشتغلت على جمع كل ما يتعلق بحياة شقيقها جول، وظهر أول عمل وثائقي عن جول جمّال، وهو عبارة عن ثلاثية وثائقية تلفزيونية هي الأولى عنه، فأسست لما بعدها من أعمال وثائقية عنه.
زرت أسرة جول جمّال أكثر من مرة، وفي المرة الأخيرة في أيلول عام 2017 كان الهدف يتعلق بإنجاز مادة وثائقية جديدة بعد مرور ستين عاماً على العدوان الثلاثي على مصر، وعلى المعركة التي خاضها البحار جول وهي مكاسرة أسطورية الروح والمدمرة الفرنسية الضخمة جان بارت فازت فيها الروح التي تحولت إلى رمز وطني وقومي كبير.
لم يكن عادل جمّال الذي كان قد أصبح صديقي في العقد الأخير، موجودا لأنه توفي قبل أكثر من عام، وكذلك كانت شقيقته قد توفيت قبل سنوات، ومع ذلك كان بيت جول جمّال هو نفسه مفتوحا رحبا يجمع كل شيء عن البحار الذي أصبح حكاية سورية، تستقبلك في هذا البيت وجوه طيبة كريمة متفائلة لم تغادر مدينة اللاذقية رغم الحرب الصعبة التي عاشتها سورية بعد عام 2011 والتي استمرت حتى الآن وتخللها هجرة واسعة للسوريين بعيداً عن الحرب والموت والدمار.
كان لقاؤنا في بيت جول جمال مع يوسف جمال ابن شقيق جول جمال، أي عادل، وقد تزوج يوسف من سيدة جميلة من أم روسية تهتم ببيتها ومحتويات هذا البيت، وفيها: مئات الصور عن جول جمّال وعشرات الوثائق التاريخية إضافة إلى عدد كبير من الأوسمة قدمتها الحكومة المصرية بتوقيع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والمشير عبد الحكيم عامر، كذلك هناك صور لتكريم أسرة جول جمّال من الرئيسين عبد الناصر وشكري القوتلي.. وثائق كثيرة تصلح لمتحف تاريخي اسمه متحف الشهيد جول جمّال.
أمضينا في البيت ساعات طويلة نصور الوثائق، ونسجل اللقاءات ونرتب الصور ونكتب ملاحظات عنها تتعلق بالمونتاج والغرافيك والسيناريو الذي نعمل عليه، وكان علينا أن نذهب في اليوم التالي إلى بيت نجلاء جمّال شقيقة يوسف في المشتاية، وبالفعل ذهبنا إلى مناطق ساحرة خضراء قريبة من مرمريتا، وهناك تعرفنا على المكان الذي ولد فيه جول جمّال في حضن جبل السايح وينابيعه الكثيرة، كانت نجلاء وزوجها جورج حنا متأهبة لتقديم ما نحتاجه في الفيلم الوثائقي الذي نعمل عليه، وجاءت ابنتها هيا جمال وأخوها كلود ومعها رسالة كتبتها جدتها دعد، وأعطتها لها قبل أن تتوفى، وفي تلك الرسالة حكاية استشهاد جول التي لا يعرفها الكثيرون في سورية ومصر: إن جول جمال وجد أن المعركة غير متكافئة بين ثلاثة زوارق مصرية يقود هو واحدا منها وبين مدمرة فرنسية ضخمة كانت من أكبر مدمرات العصر وعلى متنها مئات البحارة ومئات الصواريخ، وكان قرار جول أن يقتحم قلب البارجة بزورقه، وفعلها فدمّر جان بارت وصار بطلا سورياً ضحى من أجل مصر بروحه، وسجل أن بالإمكان أن تقتحم الروح جبروت القوة وتهزمه وذلك في صراع من أهم الصراعات في تاريخ العرب المعاصر!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن