الأولى

صدام الحضارات

| تيري ميسان 

إن القوى التي فكرت وخططت لتدمير «الشرق الأوسط الموسع»، كانت تعتبر هذه المنطقة مجرد مختبر لإجراء التجارب على نظرياتها المستحدثة، وكانت هذه القوى تضم عام 2001 حكومات كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، لكن هذه القوى هي الآن فاقدة لسلطتها السياسية في واشنطن، وتواصل مشروعها الاقتصادي العسكري من خلال الشركات الخاصة المتعددة الجنسيات.
لقد تخيل هؤلاء المُنظرون إستراتيجيتهم حول أعمال آرثر سيبروفسكي ومساعده توماس بارنت في وزارة الدفاع الأميركية من جهة، وبرنارد ليويس ومساعده صموئيل هنتنغتون في مجلس الأمن القومي، من جهة أخرى، وكان هدفهم يتمثل في تكييف هيمنتهم على التطورات التقنية والاقتصادية المعاصرة، وتوسيع نطاقها ليشمل بلدان الكتلة السوفييتية سابقاً.
كانت واشنطن في تلك الحقبة تسيطر على الاقتصاد العالمي من خلال سوق الطاقة العالمي، ومن أجل ذلك فرضت الدولار كعملة وحيدة للعقود المتعلقة بالنفط، مهددة كل من يحيد عن تلك القاعدة بالحرب.
بيد أنه من غير الممكن لهذا النظام أن يستمر لاحقاً، مع الاستعاضة الجزئية عن الغاز الروسي والإيراني والقطري، وقريباً السوري، بالبترول، ولأن هذه القوى أعادت ارتباطها مع الأصل الإجرامي لجزء كبير من المستوطنين للقارة الأميركية، فقد تصورت أن بوسعها الهيمنة على البلدان الثرية من خلال البلطجة وفرض أتاوات عليها.
كان ينبغي على البلدان المستقرة، بما فيها الكتلة السوفييتية السابقة، كي تملك حق الوصول، ليس فقط إلى مصادر الطاقة الأحفورية، بل حتى المواد الأولية عموماً، التماس «حماية» الجيش الأميركي، وبدرجة أقل، البريطاني والإسرائيلي.
كان يكفي لبلوغ ذلك الهدف، تقسيم العالم إلى قسمين، وعولمة الاقتصادات المليئة، وتدمير كل مقومات الصمود في بقية أنحاء العالم، وهذه النظرة للعالم تختلف جذرياً عن تلك التي سادت في ظل الإمبراطورية البريطانية ولدى الصهيونية أيضاً.
لم يكن لهذا التغيير في النموذج السائد أن يتحقق، إلا من خلال تعبئة قوية تأتي في أعقاب صدمة نفسية أي «بيرل هاربر» جديد، فكانت هجمات 11 أيلول، وبدا لنا هذا المشروع على أنه مجرد هذيان مشبع بالقسوة، إلا أنه يمكننا أن نلاحظ بعد ستة عشر عاماً أنه لا يزال قيد التنفيذ، وأنه يواجه عقبات غير متوقعة.
كانت العولمة الاقتصادية للبلدان المليئة على وشك الاكتمال تقريباً، حين وقفت إحدى هذه الدول، روسيا، لتعترض بقوتها العسكرية على تدمير قدرات المقاومة في سورية، ثم على الإدماج القسري لأوكرانيا في الاقتصاد العالمي، لذلك أمرت واشنطن ولندن حلفاءهما بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو، ما تسبب في وقف مسار العولمة في تلك البلدان ذات الملاءة الاقتصادية.
مع إطلاقها مشروع إعادة إحياء «طريق الحرير»، استثمرت الصين بكثافة في بلدان كانت متجهة نحو الدمار، فردت القوى التي تروج «لخريطة العالم الجديدة»، بإنشاء دولة إرهابية لقطع طريق الحرير القديم الذي يمر عبر كل من العراق وسورية، وتحويل الصراع في أوكرانيا إلى حرب، لقطع المسار الثاني لطريق الحرير.
تخطط هذه القوى حالياً لمد الفوضى إلى منطقة أخرى، في جنوب شرق آسيا. وهذا على الأقل يبدو من خلال رحيل الجهاديين إلى تلك المنطقة، وفقاً للجنة مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة، ما يعني أن هذه القوى العالمية قد قررت إغلاق حقبة ما جرى بين الأعوام 2012-2016 في الشرق الأوسط، من دون استباق أحكام متعلقة بشن حرب أولاً على الأكراد، والاستعداد لاجتياح جنوب شرق آسيا وتدميرها، وهو ما يؤسس للحقبة الثانية من «صدام الحضارات»، فبعد الصدام بين المسلمين والمسيحيين واليهود، يستمر الصدام ولكن هذه المرة بين المسلمين والبوذيين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن