ثقافة وفن

في ذكرى حطين

د. علي القيم : 

في الرابع من شهر تموز مرت ذكرى معركة حطين، التي قادها السلطان صلاح الدين الأيوبي في عام 1187م، والحروب الصليبية التي دامت نحو قرنين من الزمن، تعرض فيها العرب للخطوب والكروب، عاشوا فيها أجواء الشدايد والمحن، وتقلبت عليهم الأحوال من الهزائم إلى الانتصارات، ومن التقدم إلى الارتداد، ولكنهم كانوا مناضلين يأبون الهوان، يرفضون الذل والاحتلال، فجاهدوا بالكلمة التي تحث على القتال، وتشعل الحماسة في الصدور، ولم يتسرب اليأس إلى نفوسهم حتى وضعوا نهاية للظلم والبغي وطردوا الغزاة من بلادهم وكانت سورية على مدى هذا التاريخ الطويل حاملة مشعل العروبة والنضال ضد الفرنجة…
تجمع المصادر التاريخية، أن مما سهّل على الفرنجة غزو الشرق، تردي أوضاع العرب المسلمين، فقد ضعفت الدولة العباسية، نتيجة الثورات المستمرة والانقسامات والفتن المذهبية والسياسية، ما أدى إلى تفكك الدولة ونشوء إمارات ودويلات مستقلة أو شبه مستقلة في الشام وغيرها، وفي مصر أخذت الخلافة الفاطمية في الاضمحلال والانقسام، وفي آسية الصغرى ضعفت دولة السلاجقة وتفتت وصارت إمارات صغيرة شبه مستقلة، وفي الأندلس استولى الإسبان على طليطلة في عام 1085م، واحتل النورمان جزيرة صقلية… كل هذا الضعف، أغرى الفرنجة بالتفكير في احتلال المشرق العربي، فرفعوا شعار تحرير بيت المقدس وقبر السيد المسيح (عليه السلام) فتجمعت القوى الأوروبية وأعدت الجيوش، واتجهت نحو الشرق، فهزم السلاجقة وتقدموا نحو أنطاكية والرها واحتلوا السواحل السورية حتى عكا التي مرّوا منها إلى مدينة القدس واغتصبوها بعد حصار وصراع، وفي المسجد الأقصى جرت أكبر المذابح، ولا يمكن بحال من الأحوال سرد تاريخ حافل مما حدث على مدى قرنين من الزمن.
على الرغم مما حصل، لم تتراجع الهمم ولم تتقهقر المحاولات، فظهر في الأمة الإسلامية قادة وأبطال أعادوا الأمل، وأنزلوا الهزائم القاسية بالفرنجة أمثال: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وأسد الدين شيركوه، وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس والأشرف قلاوون وغيرهم من القادة الذين سجل لهم التاريخ معارك كبيرة، كان أبرزها معركة حطين التي ترتب عليها تحرير القدس الشريف، وكان الفرنجة قد احتلوه في الحملة الصليبية الأولى عام 1099م وظل في أيديهم إلى عام 1187م، وكان لهذا النصر المجيد مقدمات مهمة، أهمها تولي صلاح الدين الأيوبي مصر، واستقرار حكمه في مصر والشام، ودخوله مع الفرنجة في معارك عدة حالفه النصر في معظمها… ونال ثناء كبيراً في جميع المعارك المظفرة التي خاضها حتى من المؤرخين الفرنجة… وكان موت صلاح الدين في عام 1193م ووقوع القدس في أيدي المسلمين، من أهم الأسباب في تجديد الحملات الصليبية على الشرق، ولكن العرب كافحوا بعد صلاح الدين ولم يتخاذلوا، وتصدوا للفرنجة في بلاد الشام وفي دمياط والمنصورة، وإذا كان الفرنجة قد استطاعوا احتلال القدس مرة أخرى… فإنهم لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها على المدى البعيد، فقد تحررت القدس ثم سقطت، ثم تحررت نهائياً، وما جرى بالقدس جرى مثله لعدد من المدن الأخرى… وبعد مرور أكثر من مئة سنة على موقعة حطين، كانت آخر معارك الحروب الصليبية في مدينة عكا، هذه المدينة الحصينة التي يصعب اختراقها.
وبعد سقوط الدولة الأيوبية، واصل المماليك جهادهم ضد الفرنجة، وكان للظاهر بيبرس دور مشرّف في إنزال الهزائم بجيوش الفرنجة، وتحرير عدة مدن وقلاع حصينة، واستمر بعده في الجهاد الملك المنصور قلاوون وابنه الأشرف، حتى كانت نهاية الحروب الصليبية في الثامن عشر من أيار 1291 ميلادية… وعندما نتوقف عند لمحات مما حدث في هذه الحرب الطويلة، لابد من الإشارة إلى أن بعض الحكام المسلمين قد تحالفوا مع القوى الأجنبية وساعدوهم ومهدوا لهم الطرق لاحتلال مدن ومناطق عدة من بلادنا، ولكن هذه الخيانات لم تثمر وسقطت في مهدها قبل أن تشكل خطراً كبيراً على الأمة العربية والإسلامية… لقد أدرك العرب أن قوتهم في وحدتهم وفي تماسكهم وإدراكهم أن القضاء على الفرنجة، ما كان يمكن أن يتم لولا تضامنهم الوثيق ضد هذا الخطر الذي استمر نحو قرنين من الزمن، وضعفهم وتشرذمهم هو الذي شجع الفرنجة على قيام حملاتهم المستعرة، وحروبهم الصليبية المغرضة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن