ثقافة وفن

خواطر في ذكرى ميسلون

نصر الدين البحرة : 

في كتابه «دراسة في تاريخ سورية المعاصر» يذهب الدكتور نزار كيالي إلى أن نية فرنسا احتلال سورية، كانت حلماً يراود أذهان الفرنسيين منذ نهاية الحروب الصليبية، وكانت هذه النية قائمة قبل معاهدة سايكس- بيكو وبعدها، بل إن «بوانكاريه» رئيس وزراء فرنسا ووزير خارجيتها سبق أن أعلن أمام مجلس الشيوخ الفرنسي عام 1912 ما يلي: «إن لنا مصالح تقليدية في سورية ولبنان، وإننا عازمون على حمايتها».
وأشار «دوشانيل» أحد رؤساء المجلس النيابي الفرنسي السابقين إلى أن سورية هي بحكم القدر أحد الميادين الرئيسية التي تتجلى فيها الفاعلية الفرنسية.
وعندما عين الجنرال غورو مندوباً سامياً في سورية وكيليكيا وقائداً عاماً للجيش الفرنسي في الشرق، قام بزيارة وداعية لرئيس وزراء فرنسا «كليمنصو» في شهر تشرين الأول سنة 1919، فقال له: إنك ستصبح الجندي الكبير الذي سينشئ بيتاً فرنسياً في الشرق.

سايكس – بيكو والمطامع الفرنسية

ولم تكن معاهدة سايكس – بيكو، سوى التعبير عن المطامع الفرنسية في سورية، وما دامت قد تمت في أثناء الحرب العالمية الأولى، فإنها طبخت سراً قبل أربعة عشر يوماً من إعلان «الحسين» ثورته ضد تركيا في 10 حزيران 1916، لقد عقدت هذه الاتفاقية بين الدول الثلاث، الأكثر تماساً بالوطن العربي: فرنسا، بريطانيا، روسيا، وحددت بموجبها مناطق النفوذ لكل دولة، وكان نصيب فرنسا الذي سعت من أجله: السواحل السورية من الناقورة إلى الاسكندرونة مع جبل لبنان وكيليكيا.

لينين وجمال باشا يفضحان المعاهدة
أفلا يلفت النظر أن مصدرين متناقضين فضحا هذه الاتفاقية، فلم يفعل العرب شيئاً إزاءها، الأول هو لينين إثر نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917، والثاني هو جمال باشا السفاح الذي أطلع عليها الأمير فيصل، فماذا فعل هذا؟ لقد استشار أباه في هذا الشأن، فما كان منه إلا أن سأل «مكماهون» مندوب بريطانيا في مصر (!!)، فأخذ يخاتل ويناور، زاعماً الوفاء للعرب.

صك الانتداب: تناقض وعنصرية
بعد ذلك، وقبل يوم ميسلون في 24 تموز 1920، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وساهمت حتى عصبة الأمم المتحدة في المؤامرة على الوطن العربي عامة وسورية خاصة، من خلال صك الانتداب- المادة 22، ومن عجب أن يصدر عن هيئة دولية مثل هذه المادة التي تنطوي على تناقض واضح وعنصرية عجيبة، وفي نصها: «وصلت بعض الجماعات التي كانت سابقاً جزءاً من المملكة العثمانية إلى درجة من الرقي، جعلتنا نعتبرها مؤقتاً أمماً مستقلة، بشرط أن يرشدها في إدارة شؤونها نصائح، ومعونة حكومة منتدبة، إلى الوقت الذي تصبح فيه قادرة على قيادة نفسها!!».

أولى جلسات المؤتمر السوري
في 7 حزيران 1919 عقد المؤتمر السوري- مجلس النواب- أولى جلساته، وكان بين ما بحثه الاستفتاء الذي أشرفت عليه لجنة- أميركية- من مؤتمر الصلح- شباط 1919 وبالإجماع كان قرار الاستقلال التام لبلاد الشام جميعها، وبينها سورية. وبالطبع فإن هذا القرار لم يعجب فرنسا التي شاركت في مؤتمر سان ريمو- 24 نيسان 1920 الذي قرر منح فرنسا حق الانتداب على سورية.

الحكومة تأخرت نصف ساعة!
وما هو إلا أن بدأت الحكاية الأكذوبة مع إنذار غورو، والأكذوبة المتممة التي اتخذت ذريعة لهجوم الجيش الفرنسي، في أن الحكومة السورية تأخرت نصف ساعة في المهلة المعطاة لها، لإعلان موافقتها على مضمون الإنذار، لكنها أي حكومة الملك فيصل، نفذت أحد وأخطر بنود الإنذار: تسريح الجيش السوري! أما بنود الإنذار الأربعة الأخرى، فكل واحد بينها أسوأ من الآخر: وضع الخط الحديدي رياق حلب تحت تصرف الجيش الفرنسي، قبول الانتداب الفرنسي على سورية، قبول الأوراق النقدية (التي أصدرها البنك السوري، وهو مؤسسة مصرفية فرنسية- بالأساس- سورية لبنانية)، معاقبة المجرمين (الذين استرسلوا في معاداة فرنسا) والمعني: الثوار والسياسيون والمناضلون من شتى الفئات والهيئات السياسية والوطنية.

العظمة لم يحضر اجتماعات الحكومة
إذاً، فلم يكن بد من ميسلون، على الرغم من أن الحكومة ظلت تناور الفرنسيين حتى آخر لحظة، لعل ذلك يفلح في إيقاف الهجوم المرتقب، أما يوسف العظمة وزير الدفاع فإنه تغيب عن معظم اجتماعات الحكومة، منصرفاً إلى لم شتات الجيش المسرح وقبول المتطوعين وتدريبهم.
وفي 16 تموز 1920 اجتمع مجلس الدفاع العسكري برئاسة الملك فيصل، فكان الاتفاق على ما يلي: «إذا كان الهجوم قوياً، وحمي وطيس القتال، فليس لدينا من العتاد، ما يمكن جيشنا من أن يقاوم أكثر من خمس دقائق»!
وقبل أن يتوجه يوسف العظمة إلى ميسلون، ذهب لاستئذان الملك ودار حوار هادئ بينهما انتهى بقول يوسف: إذاً، فهل يأذنني جلالة الملك بأن أموت.
قدري يصف معركة ميسلون

ويصف د. أحمد قدري في مذكراته المنشورة بداية المعركة صباح 24 تموز 1920 فيقول: أطلقت المدفعية الفرنسية نيرانها بشدة على المواقع السورية، وتقدمت الدبابات، ثم قام المشاة بالهجوم، وقد «نفدت أعتدة المدافع السورية التي كانت تجيب على المدافع الفرنسية، بسبب قلة عدد قنابلها، فسهل عندئذ على المشاة- الفرنسيين- التقدم بحماية مدفعياتهم ودباباتهم، ولم يعد للسوريين نجاة إلا بالتراجع، لكن العظمة أبى إلا أن يثبت للمقاومة، واقفاً يشرف على العمليات العسكرية وبيده منظاره.. إلى أن استشهد».

بين ميسلون وخط «ماجينو»
هكذا، فإن بطولة يوسف العظمة تحمل معنى آخر سوى الاستشهاد المدروس، ذاك أن الرجل استطاع بما قدر أن يجمعه من فلول الجيش المسرح ومن جماهير المتطوعين، بتلك الذخيرة اليسيرة، وتلك الأسلحة المتواضعة أن ينظم دفاعاً استطاع أن يصمد ثلاث ساعات في وجه واحد من الجيوش الأوروبية التي خرجت حديثاً منتصرة من الحرب العالمية الأولى، وكانوا قد قالوا إنه لن يصمد أكثر من خمس دقائق- مجلس الدفاع العسكري-.
…. نعم، هذا الجيش الفرنسي، وهو في أكمل عدته وعتاده ورجاله، غداة الحرب العالمية الثانية، هل استطاع أن يصمد في وجه الجيش الألماني- بما في ذلك خط ماجينو الحصين- أكثر من ساعات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن