من دفتر الوطن

خلط العلمانية بالجهلانية

| حسن م. يوسف 

قبل أيام سألني أحد القراء: هل سورية دولة علمانية كما يتردد على ألسنة الكثيرين من مسؤوليها بين وقت وآخر؟
كانت عين الرجل تلمع بدهاء كما لو أنه قد نصب لي فخاً لا نجاة لي منه، والحق أن سؤال الرجل لا يخلو من إرباك، فالعلمانية كانت ولا تزال تحتل مكان الصدارة بين المفاهيم الأكثر التباساً في عقول الناس منذ أن قام الكاتب البريطاني جورج هوليؤك بنحت مصطلح العلمانية «secularism» قبل مئة وستة وستين عاماً.
صحيح أنه لا يمر يوم إلا وتدبج فيه حول العلمانية المطولات، من بحوث ومقالات ودراسات تنشر في الصحف والمجلات، كما تعقد حولها الندوات والمناظرات في التلفزيونات والإذاعات، لكن هذا المفهوم، ما يزال يتعرض للركل المستمر من خصومه ومناصريه كالكرة في ملعب كرة القدم، فكل طرف يركله في الاتجاه الذي يناسب مصالحه وأهواءه، لا حباً به ولا كرهاً له، بل سعياً لإدخال هدف بوساطته على الفريق الخصم.
المتعصبون لا يتركون صفة سيئة لا يلحقونها بالعلمانية، بعضهم لا يعتبرها ضد الدين وحسب، بل يرى فيها «باباً من أبواب الشرك والإلحاد»، «وعقيدة استعمارية هدفها سرقة ثروات الدول والشعوب»، و«حرباً على اللـه تعالى» و«تحطيماً لكل ما هو مقدس» و«باباً من أبواب الفتنة الكبرى التي لا تذر شيئاً ذا بال إلا أتت عليه كالرميم. لا يصمد في وجهها أخضر ولا يابس إلا ما شاء اللـه»!
قلت لصاحب السؤال: هناك معيار لعلمانية الدولة من عدمها يعتمد من ذوي الاختصاص: فعندما يذكر دين المواطن في الوثائق الرسمية لا تكون الدولة علمانية، وإذا شئت رأيي الصريح فأنا أعتقد بأنه لا نظام علمانياً بالمعنى الدقيق للكلمة في العالم برمته سواء ذكر دين المواطن في وثائقه الرسمية أم لم يذكره.
صدم الرجل بكلامي قال باندهاش: «حتى النظام الفرنسي برأيك غير علماني!»
أجبته: نعم حتى النظام الفرنسي برأيي ليس نظاماً علمانياً بالمعنى الدقيق للكلمة.
كشر في وجهي: وكيف يكون النظام علمانياً بالمعنى الدقيق للكلمة برأيك؟
قلت له بهدوء: يكون النظام علمانياً عندما لا يفرض أي قناعات من أي نوع على مواطنيه، بحيث يستطيعون الاحتفاظ بمعتقداتهم، وممارسة عباداتهم ضمن نطاق حياتهم الخاصة، دون تمييز بين أقلية وأكثرية ومعتقد وآخر. ودور الدولة العلمانية هو تأمين السلام بين معتقدات مواطنيها المختلفة، لما فيه تحقيق العدالة وخدمة الخير العام.
جوهر العلمانية برأيي هو الحرية المسؤولة وانتفاء القسر والإرغام، وهذا لا يتوافر حتى في فرنسا عندما يتعلق الأمر ببعض المواضيع، صحيح أنك في فرنسا تستطيع أن تتطاول على الذات الإلهية، وتسخر من الأنبياء وتستخف بالمقدسات، لكن النظام الفرنسي سحب القداسة من الكنيسة ومختلف جوانب الحياة وأعطاها لليهود، وإذا كنت لا تصدقني حاول أن تشكك بأن قتلى الإبادة اليهودية هو أقل من ستة ملايين ولو بنفر واحد، عندها سيكون مصيرك السجن مثل المفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي!
نعم لا تزال العلمانية تخلط بالجهلانية عن سابق قصد وتصميم! ولن ينتهي هذا الخلط المؤسف قبل وصول ضوء العقل إلى رؤوس معظم البشر، وهذا أمر لن يحدث عما قريب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن