من دفتر الوطن

الألغام في الكلام!

| عصام داري 

حلو الكلام يحمل في كثير من الأحيان خداعاً وكذباً وخبثاً محبوكاً بعناية ودقة من خبراء في علم النفس.
يقولون: إن فلاناً يدس السم في الدسم، وأنا أقول: هناك من يزرع الألغام في الكلام، فالحرب تتيح استخدام كل الأسلحة، والألغام لا تزرع فقط في الأرض(ألغام ضد الأفراد وألغام ضد الآليات) بل أيضاً في الكلام المكتوب والمسموع والمشاهد، والكلام يصبح أحياناً أفخاخاً تصطاد العقول!
هناك من يستخدم التحايل واللعب بالألفاظ ودغدغة العواطف والعزف على أوتار الموضوعية والحرية والمعلومة لتمرير رأيه الشخصي أو يمهد لمؤامرة ما أو لبث الفتن والفرقة والتمرد!
من تجربتي الشخصية أقدم بعض الأمثلة التي لا تحتاج إلى شرح، وأول هذه الأمثلة تتعلق بالحرب الإعلامية التي تشنها إسرائيل على العرب عموماً، وسورية على وجه الخصوص.
منذ نحو ثلاثين عاماً نشرت صحيفة «تشرين» السورية خبراً عن اكتشاف الماس في الساحل السوري قرب طرطوس، وفي اليوم التالي خرج معلق في الإذاعة الإسرائيلية ليقول ما ملخصه: « قالت تشرين السورية إنه تم اكتشاف الماس في طرطوس، هذا الخبر يثلج الصدر، فإذا كان جارك بخير أنت بخير!، ولأن اليهود أبرع من صقل الماس في العالم فإننا على استعداد لتقديم خدماتنا للسوريين، وهذا الأمر مرتبط بأجواء السلام، إلا أن رفض الرئيس السوري حافظ الأسد للسلام معنا يحول دون ذلك، وهذا يبقي السوريين في مشكلاتهم الاقتصادية المتدهورة ويزيدهم فقراً، مع أن تحسين هذه الأوضاع ممكن إذا وافق الرئيس الأسد على السلام!»
هذا ما سميته الألغام في الكلام، فهو أكثر خبثاً، أو «كلمة حق يراد بها باطل» وهذا أسلوب إسرائيلي لتشويه الحقائق من خلال عرضها والتعليق عليها بعبارات هادئة تبدو في ظاهرها ودودة ولطيفة على حين إنها كالخنجر المسموم.
وفي سياق متصل أذكر أنه في اليوم الأخير من العدوان الإسرائيلي في عام 1967 خرج المذيع في الإذاعة الإسرائيلية ليعلن انتهاء(حرب الأيام الستة!) ويعلن نتيجتها احتلال الجولان السوري والضفة الغربية وسيناء، بعد إعلان هذا البيان فوراً بثت الإذاعة الإسرائيلية أغنية للمطربة صباح تقول: «لاعبته طاولة الزهر.. صرلو بيتحداني شهر.. 12 برتية بساعة.. غلبته وطققتو من القهر!».
الإعلام المؤثر ليس بالعنتريات والصراخ، بل في الأغنية والشعر ومعرفة كيفية استخدام المعلومة، في تلك المرحلة كانت الأغنيات في الإذاعة الإسرائيلية عادية جداً، عاطفية تحمل حكايات الحب والعشق، على حين كانت الأغنيات في إذاعتنا تقول: (بفيتنام راحت نص أميركا.. ونحنا رح نكمل على الباقي) أو(ميراج طيارة هرب مهزوم من نسر العرب)! في الوقت الذي كان فيه الطيران الإسرائيلي قد دمر الطائرات السورية والمصرية وهي في مطاراتها.
ليس عيباً أن نستعيد تجارب الماضي، ونستفيد من العدو الإسرائيلي، لكن العيب أن نراوح في المكان في الوقت الذي سبقنا العالم بمسافات شاسعة، مع كل الاحترام للتجارب الناجحة في إعلامنا على ندرتها.
لا أدعو إلى زرع الألغام في الكلام، ولا إلى دس السم في الدسم، بل إلى التمسك بالحقائق التي نملكها ولم نعرف بعد كيف نروجها!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن