ثقافة وفن

عن النظام وسرّ النظام

| إسماعيل مروة 

إن من أكبر الملابسات التي اخترعها الإعلام، وأعطاها دلالة غير المعنى الحقيقي، وعن سابق إصرار وترصد هي اللبس الذي عززه بين مصطلحي النظام والسلطة، وقد لا يلتفت كثيرون إلى هذا اللبس، وإلى أنه كان مخترعاً وفق رؤية وتخطيط، ولم يأت عفو الخاطر، فعندما تطرح الدوائر السياسية الغربية مبدأ (الفوضى) مرة، ومرة أخرى (الفوضى الخلاقة)، وتروّج له بعد طرحه إعلامياً وثقافياً، ولإيجاد المسوغات لابد من خلق الضد الذي تتوجه إليه هذه الفوضى إن كانت خلاقة وإن لم تكن، ومن هنا تم إسباغ مصطلح النظام على السلطة السياسية في كل بلد من البلدان، وصار الإنسان المحارب للفساد والظلم يقف في مواجهة النظام لا في مواجهة السلطة، وشتان بين السلطة والنظام، وأصبحت كلمة النظام المفردة غير الموصوفة تحمل دلالة سلبية تماماً بوصف ومن دون وصف، ووقع على المصطلح ما وقع على غيره من سوء فهم، ففيما سبق بدأ استخدام مصطلح السلفية ليعمم ويصبح مؤشراً سلبياً، علماً أن اللغة لا تعطيه هذا المعنى إلا بالوصف: السلف الصلح أو ما شابه، ولكن سوء الفهم جعل كلمة سلف أينما جاءت دالة دلالة سلبية يهرب معتنقها وخصمها على السواء، وكذلك كلمات أخرى كثيرة مثل كلمة الأخ والإخوان، وفي الأدب هناك مصطلح القصائد الإخوانية والرسائل الإخوانية، وهي أنواع من الأدب الذي يتبادله المتقاربون ويحمل كماً من العاطفة والحب، وفجأة صار التعبير الإخواني مذموماً من الدلالة التي حملها البعد الدلالي السياسي.
أما كلمة النظام فهي تعبير عن الشيء الحسن المنظم غير الفوضوي، وعكسها الفوضى، إلا إذا كنا لا ندرك معنى وعمق المصطلح الذي أطلقه المحافظون الجدد (الفوضى) سواء كانت موصوفة بالخلاقة أم غير موصوفة، ولأن تعبير النظام يحمل دلالات إيجابية فقد أطلق في الدلالة الكبرى على الدولة لأنها تحمل مهمة تنظيم المجتمع، فهي المطبقة للأنظمة والقوانين، وهي التي تقرر الحرب والسلم، وهي التي تحدد السلاح ووجوده، وهي التي تقرر الأنظمة التعليمية والمناهج، وهي التي تفرض النظام القضائي، وهي التي تحدد نظام الحكم، وهي التي تختار ممثلي الشعب، وهي التي تنتقي- كما يفترض- أفضل الطاقات والخبرات لإنجاز المهام، ومهما كانت الغايات للدولة تختار الأفضل فلأنه الأقدر على الإقناع وتطبيق الرؤى وتحمل مسؤولياتها… فهذا يعني بالمطلق أن كلمة النظام كلمة إيجابية، ويجب أن نستخدمها وألا نستخدم سواها، وأن نفرض استخدامها بوصف أو بغير وصف… ومنذ عقود أخذت كلمة النظام أو الأنظمة دلالات سلبية عندما وصفت: أنظمة رجعية، أنظمة مأجورة، أنظمة استبدادية، أنظمة فردية، أنظمة دكتاتورية، أنظمة رأسمالية، أنظمة شيوعية، أنظمة متخلفة…!! وفي كل هذه الأوصاف تعميم غير مقبول وغير مسوّغ مطلقاً، فالشمولية في الأحكام توقع صاحبها في الخطأ، وبالمناسبة تضعه في خانة الاستخدام السلبية لكلمة النظام، ضمن ما يسمى الأنظمة الشمولية أو الأنظمة الأيديولوجية أو الأنظمة الحزبية، وما شئت يمكن أن ينزل تحت هذه المسميات، والقارئ المتمعن يجد أن هذه الصفات غير مقتصرة على دولنا العربية، بل هي تطلق على أي نظام في العالم، لكنه ضيق الأفق، ويكاد المريب يقول خذوني، جعل كثيرين من بلداننا ينفرون من استخدام كلمة النظام، ويجدونها منقصة للدولة، علماً بأن مفهوم الدولة على جلالته دون النظام، فإذا افتقرت أي دولة مفهوم الدولة المنظمة صارت دولة فاشلة، بينما يمكن للنظام أن يبني دولة أو يستعيد دولة أو يستعيد سيادة.
وللتدليل على قيمة النظام وأهميته، لابد من الوقوف عند الهرمية والمسؤولية التي جعلت النظام، وخاصة في الحالة السورية، قادراً على تقديم ما يجب تجاه الإنسان، وإن اعترى هذه المسؤولية بعض الوهن والضعف، وصغار بعض النفوس، إلا أن النظام حافظ على قدر كبير من مكانته ومن مكانة الناس في المناطق التي لم تخرج عن السيطرة بفعل خارجي، هذا على أرض الواقع، أما في مجال الحوار والسياسة فقد رأينا النظام على ألسنة من يتحدثون عنه في مواقف محددة لا تتغير إلا بقدر التحركات على الأرض، وكانت المفاوضات تنطلق من ثوابت، وهنا لا أعني التشبث، وإنما أرضية الحوار… وفي الجانب الآخر في ظل غياب النظام رأينا حكومات تتشكل، وكلها تحمل من داعميها صفة المؤقتة، ولكن لأن تلك الجهات لا تملك نظاماً، جاء من جاء، وغادر من غادر ولم تترك أثراً، ولأنه لا نظام ينتظمها كانت المواقف متحولة متبدلة بتبدل الظروف والشروط، وآراء الداعمين، لأنها تخضع لأنظمة قد تتلاقى، وقد تتصادم، ولا تخضع لنظام أو منظومة واحدة، وعلى الأرض رأينا فرقاء كثيرين، وبعضنا يعرف أسماء بعض القادة، ويعرف مؤهلاتهم واستيعابهم، لذلك لم نجد أي تنظيم، ولم تستطع هذه الفرق أن تحقق نظاماً، لأن الهرمية مفتقدة، ولأن مفهوم النظام القائم على الدراسة والتوجيهات لا يمكن تطبيقه في مجتمع الفوضى.
في الحالة السورية سمع كثيرون منا آراء طريفة ومؤلمة، فبعضهم صار يتمنى أن يتمكن النظام- السلطة- من الإمساك بزمام الأمور، وبعضهم قال: مهما فعل النظام فهو أفضل، وهو أكثر ضماناً للحياة واستمراريتها، واستمرار تدفق الغذاء والدواء وأسباب الحياة! سمعنا ذلك من أناس لا يحبون السلطة لمجرد الحب، ولا يملكون أسباباً أو أعذاراً، ولا يفرقون بين النظام والدولة، ولا يميزون بين الأشخاص والدولة، ويمكن أن يحملوا الدولة كل الأوزار والأغلاط التي يرتكبها الأشخاص الموجودون في النظام، وهم يرتكبون هذه الأخطاء بحق الدولة قبل أن تكون بحق أحد… وهنا تبرز أهمية النظام، فهو وحده القادر على محاسبة المسيء والمقصر وهو القادر على التغيير بآلية الدولة، بينما لا تقدر الفوضى على فعل ذلك، ومهما أوتيت الجماعات الأخرى من قوة ودعم، فإنها غير قادرة على الفعل، والحالة الليبية تمثل أمامنا لتريك جماعات متعددة، دولاً داخل دولة، لكل جماعات نظام وأهداف، وكلما اقتربت الحلول من نهايتها تضاربت مصالح الجماعات، بل تضاربت مصالح رؤساء الجماعات والأنظمة، فعادت الأمور إلى نقطة البداية!
وهنا، ومن دون أي مجاملة أو بحث عن مسوغات، فإن أعلى ما يمكن تقديره أن سورية ببقاء جيشها ورئيسها حافظت على الدولة والمؤسسات، وإن شئت، حافظت على النظام السياسي والإداري، فجنبت سورية الفوضى والعبثية، والمتابع- حتى الخارجي- يتملكه العجب من أن العمليات كلها تجري بلا تأخير من التربية وامتحاناتها، والوظائف ومرتباتها، والخارجية ومهامها، والمجتمع وشؤونه، والأزمة وإدارتها، وكل ما نسمعه من تذمرنا نحن الذين نعيش في سورية يأتي من رغبتنا في نهاية سريعة لا أكثر، ومن الحرص على أن يوضع حد لكل شيء لتبدأ سورية انطلاقتها.. الحب في أن يرمم النظام مفاصل سورية، وأن يشعر هذا المواطن الذي لم يغادر سورية، وهو قادر على المغادرة، بأن بقاءه وعمله موضع تقدير النظام، هذا النظام القادر على التخلص من الشوائب داخله بقدر قدرته على التخلص من الطحالب الخارجية التي تحاول اعتراض سبيل الخلاص.
النظام تنظيم وخلاص من الفوضى، وما علينا إلا أن نرفع راية النظام القادر على المسايرة وإصدار القرار، وإعطاء إشارة النهضة من جديد… وفي سورية تبدأ الحياة غداً.. والغد نظام قادر على الفعل والانطلاق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن