قضايا وآراء

جوهرة العقد الروسي

| عبد المنعم علي عيسى

لكأن المنطقة كانت بحاجة إلى المزيد من التشرذم لكي يأتي رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بكل هذا الملح، مركز اليود، فيصبه على جروحها الغائرة، فها هي الغايات ترتد على أعقابها والتشرذم حط رحاله في إقليمه الذي حكمه لعقود قبل أن يذهب به إلى قاع لا قرار له، والمؤكد أن خطر التقسيم بات جاثماً على الصدر الكردستاني قياساً إلى توافر مناخاته الداخلية والخارجية في آن حتى إذا جاءت قفزة بارزاني التي لم تحسب بالتأكيد أي حساب لمصير تفاحة نيوتن، وما هو منتظر هو أن تنتقل تداعياتها إلى الطرف السوري على الرغم من حالة التجاوب التي أبدتها القيادات الكردية السورية مع إعلان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم على هامش مشاركته في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول المنصرم أن «إقامة نظام إدارة ذاتية للأكراد في سورية أمر قابل للتفاوض والحوار في حال إنشائها في إطار حدود الدولة»، فتداعيات من هذا النوع لا تأتي، ولا يمكن إيقافها من فوق، وإنما تتغلغل كالنعاس الذي يجتاح الجسد فيفرض على الأجفان انطباقها.
دخل الشرق السوري من جديد مرحلة أخرى أشد تعقيداً من سابقاتها، الأمر الذي يتمظهر في احتدام الصراع الدائر هناك، حيث ما من نجاح يمكن أن يحققه الجيش السوري وحلفاؤه إلا ويقابله محاولات أميركية لإجهاضه، ومع التقدم المهم الذي حققه الجيش في دير الزور وصولاً إلى الميادين، كان القرار بسحب ما تبقى من داعش وتوزيعه على الحدود السورية العراقية لكي تكون شوكة في خاصرة هذا الأخير وحلفائه، وفي الآن ذاته تموضعت القوات الأميركية أو الحليفة لواشنطن على مجرى نهر الفرات لمنع تمدد هذا الأخير باتجاه مدينة الرقة أو أريافها بعدما أعلنت قسد 20 تشرين الأول الحالي: إن الرقة ستكون جزءاً من سورية الاتحادية اللامركزية، في أعقاب إعلانها سيطرتها التامة على كامل المدينة.
ولفهم مجريات الشرق أو المآلات التي يمكن أن تفضي إليها نعود إلى الدوافع التي تقف وراء القوى المتصارعة أو الأهداف التي تسعى إليها هذي الأخيرة.
حدثت الأزمة السورية في لحظة كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيها يبحث عن التمكين في العديد من المواقع الجيوسياسية المهمة في إطار سعيه إلى معادلة الثقل الروسي بنظيره الأميركي وهو يدرك أن وهن الاقتصاد الروسي الذي يأتي ما بعد البرازيل وإيطاليا في سلم الترتيب الاقتصادي العالمي، سوف يفضي في خلال مسعاه ذاك، إلى فجوات لا بد من ترميمها لكي تستوي المعادلة الجديدة، والثابت هو أن روسيا فلاديمير بوتين قد استطاعت من خلال السياسات التي انتهجتها على مختلف الصعد، إبان السنين السبع السابقة، أن تستعيد الكثير من وزنها الدولي، حتى إنها أضحت بمفردها المرجعية الوحيدة للتعاطي مع الأزمة السورية، ويظهر ذلك بوضوح رحلات الحجيج التي كانت، ولا تزال، تمارسها القوى الإقليمية باتجاه «القبلة» السياسية الروسية، والوصول إلى وضع كهذا لم يكن أمراً سهلاً فهو تطلب المرور بمراحل عدة عملت موسكو من خلالها على «غربلة» تلك القوى الواحدة تلو الأخرى أو إجبارها على الانضواء تحت راية الدور السياسي الروسي مستعينة في البداية بضوء أخضر أميركي محدود، كان قد حصل عليه قبيل القيام بعاصفة السوخوي في 30 أيلول 2015.
في مطلق الأحوال أثبت بوتين أنه رجل دولة من الطراز الممتاز، وزعيم تملأ نظرته الإستراتيجية البعيدة المدى، وإذا ما مارس التكتيك، فإن هذا الأخير يكون في خدمة تلك الإستراتيجية وليس العكس، فقد ركل بكلتا رجليه كل تلك الإغراءات الخليجية التي كانت قد وصلت إلى حدود الوعد بنفوذ روسي يفوق بكثير النفوذ الذي كان يحظى به الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي، وكأن أمراً من هذا النوع يأتي بالعطاء ولا يؤخذ بقوة الذراع، كما سخر من تلك التهديدات التي كان يأتي بها مسؤولون خليجيون وكانت أشبه بتهديد النملة للفيل، ووصلت إلى حدود أن يهدد رئيس الاستخبارات السعودي بندر بن سلطان إبان لقائه الرئيس الروسي عام 2013 بدفع الاتحاد الروسي إلى المصير الذي آل إليه الاتحاد السوفييتي عام 1991 عبر استخدام التنظيمات الإسلامية المتطرفة في تكرار ممكن لظاهرة الأفغان العرب التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي.
لم تهتز الأعصاب «البوتينية» ولا رؤية الرجل فقدت صوابيتها، ولم يكن لديه أدنى شك في أن ما يجري في سورية، والمنطقة، سيكون تاليه في إيران، أما مستقره فهو في روسيا والصين عبر اللعب على المكون الإسلامي في إقليم الشيشان الروسي والأيغور الصيني، ومن ثم تقرر وجوب القضاء على البيادق الأميركية الناشطة في المنطقة آنذاك، ولطالما كان ذلك النشاط لافتاً أو هو يتعدى حجم البيادق بكثير، ففي اجتماع وزراء الخارجية العرب في 11 كانون الأول 2011 والذي أفضى إلى تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية، أجاب وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم نظيره الجزائري الذي اعترض على ذاك القرار: «اسكت، الدور القادم عندكم» وبالتأكيد لم يكن ذلك النفس الذي تحدث به ابن جاسم وليد الرئة الخاصة بالجماهيرية القطرية العظمى، وما جرى هو أن موسكو استطاعت شل البيدق القطري، وكذلك البيدق السعودي، الذي جاء بعده، الأمر الذي أفضى إلى مواجهة «الأصيل» الأميركي مباشرة، ولاسيما أن التطورات كانت قد فرضت على هذا الأخير النزول شخصياً إلى الساحة حيث ستتيح عوامل عدة لموسكو الفوز بالنقاط في أغلبية الجولات التي جرت حتى الآن، فكان اتفاق 9 أيلول 2016 الذي أسقطه البنتاغون، ومع ذلك فقد استمرت وجهة المسار نفسها ليصدر القرار 2254 ثم عودة حلب إلى الحضن السوري في 22 كانون الأول 2016.
كانت واشنطن تأمل من خلال توكيلها الشأن السوري إلى موسكو، إقناع هذي الأخيرة القبول بالحل الأميركي للأزمة الأوكرانية، وفي الآن ذاته إبعادها عن كل من طهران وبكين، حيث لا تزال آثار ابتعاد هذي الأخيرة عن موسكو السوفييتية ماثلة في الأذهان عندما استطاع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، إبان زيارته السرية إلى الصين عام 1971، استمالة هذي الأخيرة في مواجهة الخصم السوفييتي، والمؤكد أن هذا الأمر الأخير كان قد لعب دوراً مهماً في مسلسل الزلازل التي شهدتها الجغرافيا السوفييتية والأوروبية الشرقية بين 1989-1991، وفي المقلب الآخر كانت واشنطن تسدد الضربة تلو الأخرى لمنظمة دول البريكس التي تمثل الظهير الاقتصادي الذي يستند إليه بوتين لتقليص الفرق الاقتصادي مع القوة الأميركية، والذي يحول بين موسكو والندية الحقيقية لواشنطن، وهو ما تمثل مؤخراً في التقارب الأميركي الهندي الذي سيؤدي بالضرورة إلى تباعد صيني هندي ما يهدد بانفراط عقد ذلك الظهير بفعل تناحر القوتين الكبريين فيه.
يرقب القيصر كل تلك المجريات وهو موقن بأن الهدف البعيد لها هو رأسه أو رأس مشروعه القائم على استنهاض القدرات الروسية، وفي الآن ذاته يدرك أن النجاح في سورية مهما تبلغ أثمانه الباهظة، من شأنه أن يكون ركيزة أساسية في الحفاظ على ذلك المشروع وعلى رأس صاحبه أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن