ثقافة وفن

يا حسرة ما أكاد أحملها.. القصيدة العربية تذوق وتحليل … قصيدة بين السلم والحرب.. الأمان والغدر.. وسر أسرار الجمال

| سوسن صيداوي

كتاب (القصيدة العربية.. تذوق وتحليل)، للدكتور عبد الكريم محمد حسين. ففي قراءة تذوقية تحليلية موسّعة، يتناول المؤلف قصائد قديمة ومعاصرة، كاشفا عن أسباب اختياره لكل قصيدة من القصائد الاثنتي عشرة المدروسة، فيحدثنا عن مناسبتها، كما يورد آراء الباحثين السابقين، ويناقشها مناقشة وافية، في أماكن قد يوافقهم أو يخالفهم الرأي فيها، موضحاً أسباب ذلك، ثم ينطلق إلى موقفه النقدي الجديد الذي يحلل من خلاله القصيدة لغة ووزنا، ألفاظا وصياغة في إمتاع للقارئ وزيادة معرفة شائقة ومفيدة. يقع الكتاب في 583 صفحة، وهو من القطع الكبير، ومن القصائد الاثنتي عشرة المدروسة، سنذكر منها ثلاثة نماذج.

حلاوة القافية ومتانتها في قصيدة
أبي فراس(يا حسرة)
شرح المؤلف د. عبد الكريم حول حلاوة القافية ومتانتها في قصيدة أبي فراس (يا حسرة)، وحول تفاصيل هذه الدراسة منطلقا من قول مأثور عن أبي منصور الثعالبي، وذلك بإثبات قصيدة أبي فراس التي أولها: «يا حسرة ما أكاد أحملها»، وتحديد القافية، وبيان علاقتها بالبيت الذي تنتمي إليه، مشتقة الآراء من بناء القافية كليا بالنظر إليها لفظا ومعنى، وجزئيا بالنظر إليها صوتا ومبنى، والكشف عن علاقاتها بالبيت والقصيدة. متابعا المؤلف أن الغرض هو: إظهار حلاوة القافية من جهة تمكن معناها من البيت الواقعة فيه، وخدمتها غرض الفكرة التي يتحرك فيها البيت، نفسه، وتناغم أصواتها وأصوات الألفاظ المتقدمة عليها في البيت أو تناغي أصواتها أصواتا أخرى تطفو في أصداء الأبيات من بعدها، لكن متانة القافية تعود إلى شدة اقتضاء البيت لها من جهة، وعودة الضمائر فيها إلى ما تقدم من ألفاظ البيت أو معانيه المركزية من جهة أخرى، وهذا يؤكد شدة الروابط بين القافية والأصوات والمعاني المتقدمة كالمباني التي تقوم عليها ألفاظ البيت وألفاظ القافية في تعددها بيتا بيتا، بيد أن الدراسة تستقصي حيث يجب الاستقصاء، وتأخذ بالعينات حيث يجب اجتناب التكرار، وتقوم الطريقة بالبرهان على المطلوب في هذه العينة، وغيرها يحمل عليها، لقول العرب: الحمل على ما له نظير أولى من الحمل على ما لا نظير له.
وحول هذه الدراسة يتابع الباحث قائلاً: «مما تقدم تبدو القصيدة دائرة، والقافية مركزها، وأصواتها أقطار تلك الدائرة التي تمتد إلى محيطها، كما تمتد نسج القصيدة من بيتها إلى قافيته ومنها إلى أي قافية أخرى في أبيات القصيدة. وكلما تقاربت الأصوات في المباني، اشتدت أواصر القربى بين المعاني. ولا ريب في أن الدراسة تعد مفتاحا لفك الأقفال المغلقة على نظام القافية في القصيدة العربية، وانكسار التصلب في مقاومتها، وإعلان موتها أو إلغائها بحجة أن الحداثة تعني التجاوز والتخطي، ولا معنى للتجاوز من غير علم، ولا معنى للتخطي من غير برهان يوجب إسقاط ما تقدم، وكأن الفن الجميل قابل للموت أو الفناء أو التلاشي، وهذا مخالف لطبيعة الفن والجمال، وهما لا تجري عليهما قوانين الفناء والتلاشي، ولا تنطبق عليهما فكرة الناسخ والمنسوخ الجارية على الأحكام التشريعية والقوانين الوضعية».
قصيدة (نكبة دمشق) للشاعر أحمد شوقي

تحدث المؤلف الدكتور عبد الكريم عن ضيق الموقف وفضاء اللغة في قصيدة (نكبة دمشق) للشاعر أحمد شوقي، متحدثا هذه القصيدة لها جانب تاريخي؛ لأنها تسجل واقعة ضرب دمشق بالمدفعية الفرنسية؛ لمناصرتها أهل السويداء في جبل العرب. وبأن هذه القصيدة تكشف عن تحول أحمد شوقي في لغته من الرابطة الإسلامية إلى الرابطة الشرقية «ولكن كلّنا في الهمّ شرق»، ويتابع أن القصيدة تتخلى عن وحدة العرب في الموقف؛ لأنه دعا السوريين وحدهم لنصرة دمشق ومقارعة الاستعمار، وترك للعرب النظر إلى ما يجري، والتحسّر، والكلام، وهذا تراجع من الوطنية القومية إلى تثبيت الحدود الإقليمية، من خلال الدم والمواجهة بين أبناء سورية والمحتل الفرنسي. وثمة قيمة لمشاعره الإنسانية المحيطة بأبعاد القصيدة كلّها. وأشار الباحث إلى آراء الباحثين المتقدمين فيها، ومناقشة أفكارهم، منطلقا من المواقف التي تناولتها القصيدة، فجلّها يصور ضيق الموقف المحيط بدمشق وفيها، ويصور فضاء اللغة العربية في التعبير عن مصابها بتنوع الأساليب التي يجتمع فيها خطاب العقل والقلب، بشفافية في أداء المعاني، المستمدة من وقائع الاحتلال اليومية، وغنائية البحر الوافر، وقلقلة حرف الروي «القاف»، وطاقة أمير الشعراء الإبداعية التي جعلت القصيدة قوية في أساليبها وتصويرها وتأثيرها وسيرها على ألسنة الناس. مضيفاً إن الغرض من هذه الدراسة هو الكشف عن طاقة اللغة في موازاة الأحداث الجسام والتعبير عنها، وقوة تأثير الكلمة انفعاليا بأساليب اللغة العربية التي تخاطب العقل والنفس فرادى أو مجتمعين معا.
وتابع أن هذه القصيدة مبنية على أضلاع مثلث، تجمع خلاصة موقف الشاعر من ضرب الفرنسيين مدينة دمشق الآمنة بالمدافع. كما سيأتي في مناسبة القصيدة بين يدي نصها. ويضيق الموقف بأهل الشام الذين وجدوا أنفسهم تحت سخط مدافع الفرنسيين، ولا نصرة من العرب، ولا من المسلمين، وانضمام ضعاف الوطنية إلى غزاة الشام على نحو يقع دائماً عند الشعوب كلها، كما ضاق الموقف على شوقي وهو شاعر القصر. متابعا «المؤلف» أن أضلاع مثلث الإبداع عند شوقي هي:الحنين إلى دمشق مشدودا إلى أضلاع الذكرى، وضرب دمشق مشدودا إلى نشرات الأخبار، وموقف الشاعر من الضلعين السابقين مشغوفا بالحزن والأسف، لما جرى من أمور أسهمت في التحرك بالمدينة من السلم إلى الحرب، ومن الأمان إلى الغدر، ومن الترف والتنعم إلى الخشونة والكفاح. خاتما بأن القصيدة جاءت تعبيراً عن حال المدينة بين قطبي الحياة؛ السلم والحرب، والعدل والظلم، وموقف الشاعر منها في أطوار عيشها كلها. وفي سبيل الوصول إلى المبتغى يرى المؤلف أنه لابد من تعيين بعض المواقف السابقة من القصيدة أولا، وإثبات القصيدة ثانيا، وتحديد الموقف من نكبة دمشق، وتحليله في سياق تحليل لغة القصيدة، وهو ما توجبه طبيعة النص، وتتطلبه زاوية النظر إلى الموقف من خلال لغة القصيدة نفسها، وهي سر من أسرار جمالها.

قصيدة نزار قباني (القدس) الرؤية والواقع
تحدث د. عبد الكريم محمد حسين عن الرؤية والواقع في دراسته لقصيدة (القدس) لنزار قباني، وتذوقها في ضوء دراسة مسألة القدس في شعره عند عدد من الباحثين، مشيراً إلى أن الأبحاث لا تتناول القصيدة مباشرة، لكنها تؤلف مفاتيح رؤيتهم لموقعها في رؤيته، حيث تستعرض الدراسة ذكر الشاعر قباني للقدس في شعره، واستنهاض رؤيته للمدينة في حاضرها وماضيها ومستقبلها، واختبار واقعية الرؤية بقياس ما توقّعه إلى ما وقع بعد قوله، وارتقاب ما لم يقع؛ لثبوت صحة رؤيته. والوقوف على بعض الآراء الجريئة التي نبتت على هامش بعض المقاطع الشعرية التي حملت القدس في رؤيته، وملاحظة آراء الباحثين في مقولاته…… وتصويب الآراء. وأما جهة التذوق فيتابع المؤلف بأن الدراسة تتناول القصيدة من جهة علاقة بنية القصيدة الفكرية بتعدد حروف رويها، وملاحظة لزوم الجمال بسبل العرض وفق أساليب التكرار في الصورة، وتنوع الصور، وتكرار الأساليب الخبرية والإنشائية، وتنوع الأغراض مهما تعددت صور التكرار، مما يوضحه البحث، مشيراً إلى أن نتيجة الدارسة تأتي كي تلازم النظرة العلمية للنص-أي:دراسته من جهات انفتاحه للدارسين المتقدمين- بالنظرة الفنية التذوقية، ومحاولة ربط القصيدة (القدس) بطرفي دراستها عند المتقدمين من طرف، ورؤية مؤلف المقالة من طرف آخر، فاجتمعت الرؤية بالواقع عند نزار، كما اجتمع الجانب الدراسي للنص بالجانب التذوقي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن