من دفتر الوطن

خارج الأطر وفوقها

حسن م. يوسف : 

قبل سنوات شغلت نفسي، لوقت طويل نسبياً، بالتفكير في الشر الأكبر الذي يهدد الحياة على كوكب الأرض. تعقبت مختلف الشرور إلى أصولها فوجدت أنها كلها تتفرع من التعصب.
«ضربة مطرقة أخرى وتصبح قطعة الحديد العمياء منجلاً،
ضربة مطرقة أخرى ويصبح المنجل قطعة حديد عمياء».
قد تستغربون إذا قلت لكم إنني عندما كتبت الكلمات الواردة أعلاه، كنت أفكر بهتلر، فقد قادني عقلي إلى أن التعصب يفسد كل شيء يخالطه بما في ذلك أنبل الأشياء وأسماها وأرقاها، فحتى الحب، عندما يمتزج بالتعصب، يصبح خليطاً قاتلاً، كما السم حين يدس في الدسم! وغالباً ما يكون المحبوب، هو أبرز ضحايا هذا الخليط، كما كان الحال مع ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي. فقد تعصب هتلر لألمانيا ورفع شعار « ألمانيا فوق الجميع» فكانت النتيجة أن قادها إلى دمارها وجعلها لوقت طويل، تحت رحمة الجميع!
حاولت أن أفهم آلية تفكير المتعصب، فوجدت أنه يرى أن معتقده هو الحقيقة الوحيدة الصحيحة، وأن كل المعتقدات الأخرى، سواء كانت سماوية أم وضعية، غير سليمة أو غير حقيقية. حاولت أن أدخل إلى «عقل» و«فكر» المتعصب، فوجدت أنه أشبه بالثقب الأسود الذي يمتص كل شيء، بما في ذلك الضوء. وعلى هدي هذه الحقيقة فهمت لماذا أستطيع أن أتعايش وأتحاور مع من يتناقض كلياً مع نمط عيشي وأفكاري، ولا أستطيع تحمل العيش والحوار مع من يتعصب لنمط عيشي وأفكاري!
تمعنت في مختلف أنواع التعصب فوجدت أن أشنعها وأبشعها هو التعصب الطائفي! ولهذا كان اندفاعي نحو الشخص يزداد طرداً كلما ازداد رفضه للطائفية. وربما كان هذا هو أكثر ما جذبني لرفقة عادل الحديدي الذي غلبه السرطان قبل أسابيع. فقد كان عادل الحديدي طوال حياته رجلاً حراً يؤمن بالإنسان كقيمة عليا خارج وفوق كل الأطر والعقائد والمفاهيم!
والآن وقد غادرنا عادل الحديدي أود أن أعترف أن حبي له لم يكف يوماً عن النمو، حتى في لحظات كتابة هذه الكلمات، رغم أنني كنت أخالفه الرأي في قضايا كثيرة، كما لم أكن معجباً بنمط حياته، بل إنني انفجرت مرة في وجهه، بشكل غير ودي، واتهمته بخيانة موهبته كأديب!
قليلون هم من يعرفون أن عادل الحديدي كاتب قصة من طراز رفيع، لكنه تجاهل أن نبتة الموهبة، إن لم نحطها بالعناية تذبل كما لو أنها لم تكن. فالكلمة لا ترضى منك، كي تهبك شيئاً من قبسها الإلهي الجميل، بأقل من حياتك كاملة، وقد ضن عادل الحديدي بحياته على الكلمة، فضنت عليه، بحيث لم يترك خلفه سوى مجموعة قصصية واحدة بعنوان «الكوابيس».
في واحد من أجمل الحوارات التي أجريت معي قال لي عادل الحديدي: «من يرك يحس أن براكينك الصاخبة قد خمدت، وأن صبوة جنونك قد همدت وتحولت إلى خادمة عاقلة للشيخوخة، كيف ترسم ملامح صورتك الشخصية الآن بين صبوة الجنون وحكمة الشيخوخة؟».
يومها قلت لعادل: « في أوقات اليأس، التي بدأت تزداد مع التقدم في العمر، أشعر أنني عبد بالمعنى القديم للكلمة! أحمل سلاسلي وكتلة تقييد الحركة الثقيلة تحت جلدي! وفي لحظات العجز، أرى العبد في داخلي يحمل كرته ويجرجر سلاسله ويعدو لاهثاً أمام ضبع مفترس يشبه اللقمة! لكنني في أوقات الصداقة والحب والموسيقا، أفقد الإحساس بجسدي، وأرى هذا العالم بعينين طازجتين كعيني مجنون منفلت في البراري! وأحس بأنني خفيف كريشة تحملها نسائم الصحبة في رحابة زرقاء لا حدود لها! أعتقد أن العالم يتحول ببطء إلى مصحة كبيرة للأمراض العقلية، والأطباء يجنون أو يموتون الواحد تلو الآخر مفسحين الطريق لسيادة الجنون!».
عادل الحديدي، تبقى معنا ما بقينا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن