ثقافة وفن

عن العلم وسرّ العلم

| إسماعيل مروة 

إنه سر الحياة، والسر الأعظم لاستمراريتها وبقائها، بل هو سبب سموها وسمو الأفراد الذين يسلكونه طريقاً، فبالعلم وحده يمكن أن يسمو الإنسان ومجتمعه، لذلك وجدنا جميع العقائد المعروفة والوضعية تركز على العلم، وتذكر فضله وضرورته، فدار على الألسنة من الصين إلى الشام إلى مصر إلى بلاد فارس واليونان والهند، ولو عدنا إلى أي تاريخ، من تاريخ ول ديورانت للحضارة إلى تاريخ دمشق لابن عساكر سنقف عند العلم وتلقفه وأهميته، فكم من معاهد العلم التي نقرأ عنها كانت في الأديرة والمساجد؟ وإلى يومنا هذا نجد المدارس والمعاهد والجامعات الملحقة بالمؤسسة الدينية، ومع أن العلم اليوم صار دنيوياً، إلا أن الرغبة التجارية في الدرجة الأولى أبقت هذه المدارس والجامعات على تبعيتها لمؤسسات دينية، وكان من الممكن لهذه المدارس والمعاهد أن تؤدي دوراً تنويرياً مهماً إلى جانب المعاهد والجامعات التي تنتهج التعليم المدني، وأن تحافظ الجهات الوصائية الدينية على الاستفادة من العوائد المالية لخدمة رعاياها، ولكن رغبة السيطرة والهيمنة، والإبقاء على المشروع المالي دفع هذه المؤسسات الدينية إلى إلباس معاهدها لبوساً دينياً، وأحياناً لبوساً طائفياً أو مذهبياً أو أضيق من ذلك، ودلفت هذه المؤسسات بتخطيط إلى المناهج والتدريس، وصرنا نجد معهداً يختص بالسنّة، وآخر بجماعة من السنّة، وآخر بجماعة من الشيعة، وآخر بالكاثوليك، وآخر بالأرثوذكس، وآخر بالأرمن، وآخر وآخر، علماً بأن هذه المعاهد يمكن أن تؤدي دوراً تنويرياً مهماً من دون أن تحمل لافتة دينية، فهذه يسوعية، وتلك إنجيلية، وتلك مالكية أو شافعية أو حنفية أو حنبلية أو حسينية.. يمكن لهذه المعاهد أن تحمل مسمياتها الخاصة عندما تختص بعلوم شرعية تتفرع عن المؤسسة المشرفة عليها، أما أن تكون مختصة بعلوم دنيوية مثل الأدب والحقوق والتجارة والكمبيوتر أحياناً، وتحمل سمة دينية، ويمكن أن تفرض مواد مقررة لها علاقة بالدين فذاك أمر مرفوض، ويمكن أن أقدم هذا الرأي لمصلحة تلك المؤسسات، فعندما يدرس أحدهم الاقتصاد في هذه المعاهد أو الإعلام، يجب أن تكون المواد تقنية تماماً، وفي هذا تحقيق للكسب المادي والعلمي، فالطالب الذي لا ينتمي إليهم يمكن أن يدرس ويدفع، ويمكن أن يكون مدافعاً عنهم وعن علميتهم ومنهجهم في مراحل لاحقة.. أما أن يطلب من الطالب المعرفة الفقهية أو اللاهوتية في جماعة وهو ليس منها، فهذا الأمر سينفره من الجامعة والمعاهد، فيخسر المكان شخصاً ومالاً، ويكسب ناقداً وناقماً.. ألم يكن أسلافنا يرحلون في طلب العلم؟
ألم يأخذ أحدهم العلم عمّن يخالفه ولا يتفق معه؟
ماذا عن علم الحيل والساعات والشيفرة والفلسفة والطب؟
لماذا كان الأسلاف أكثر تحضراً وتطوراً؟ لماذا كانوا أكثر انفتاحاً؟ لماذا ولماذا؟
إن ما نراه اليوم من تشرد يعود إلى المصالح الفردية والذاتية لهذا أو ذاك، لهذه الجماعة أو تلك، وغالباً ما يتم إلباس الغايات المصلحية والمادية بشعارات دينية، ومن ثم تذهب المصالح إلى جيوب محددة، وينتشر التشدد، وخاصة من عدم اعتماد آلية محددة في تبعية هذه الجامعات والمدارس والمعاهد، إذ يجب على الوزارات المعنية أن تسيطر على كل شيء، من مناهج واختيارات وأساتذة، وأن تترك للجهات الراعية القضايا المالية، لا أن تتحكم مصالح هذه الفئة أو تلك بتسمية فلان بالأستاذ الدكتور، وهو لا علاقة له بشيء!! وإنما يكتسب التسمية من موقعه في الدولة لتحقيق مصالح هذه الجماعة أو تلك علماً بأن جامعاتنا الخاصة سواء ذات التبعية الدينية أم المدنية ليس لها كوادرها، وكل كوادرها من الدولة التي تعبت ودفعت ليأتي هذا أو ذاك ويقطف ثمار العلم والدولة لذاته! أليس هذا من الخلل الواضح؟ أرأيتم من درس مجاناً واستنزف الدولة وأوفد ووو.. وفي ساعة الجد ينحاز إلى مصلحة الجيب على حساب الدولة؟ أليس بإمكان الدولة، ونحن بعدد السكان لسنا بحجم مزعج أن تعمد إلى منهجية علمية لا تخرج عن إطار الدولة، وبجامعات رديفة للدولة؟ وبأسعار رمزية لتحقق التوسع في التعلم لجميع الناس، لأن العلم المتاح تنوير للمجتمع، ويغيّر من ذهنية المجتمع، وينفي التطرف، ويحقق التوازن، فالعالم والفنان والمبدع لا يمكن أن يكون قاتلاً، ولن يكون إلا محباً وزارعاً للورد.. لماذا يسعى بعض المتنفذين في الدولة إلى التضييق في فرص التعليم على الشباب؟ ما مصلحة الدولة في هذا التضييق؟ بدل أن يستوعبه التعليم العام يذهب إلى التعليم الموجه أو إلى التعليم الاقتصادي الخاص..!
العلم وسرّه، العلم لوجه العلم، العلم لوجه الثقافة، عندما كان الطالب يرحل من بلدة لأخرى مشياً للحصول على العلم، وللوصول إلى المعرفة، وثمة فرق بين أن يحب أحدنا العلم، وبين أن يجده متاحاً أو يشتريه، وعلى سيرة الشراء، كنا مجموعة أصدقاء نتبادل أطراف الحديث، فجاءت سيرة الدكترة، ولقب الدكتور صار مطمحاً وما أشبهه بلقب الحاج، فما إن يذهب أحدهم إلى الديار المقدسة حتى يحمل اللقب، ويرغب من الجميع أن ينادوه به، بل ويزعل إن لم ينادَ به، مع أن هذا الفعل تعبدي والله يثيب عليه، وليس لقباً شخصياً، والدكترة لقب علمي يأخذ عوائده صاحبه، ومع ذلك لا يقبل أن ينادى إلا به، وربما وجدنا مسوغاً لمن تعب وحصّل، ولكن لقب الدكترة لمجرد اللقب صار موضة، ليسبق به الاسم، فهذا اشتراه من جامعة غربية، وهذا من جامعة شرقية، وثالث من جامعة عربية، شهادات للبيع، بل إن عدداً من ذوي النفوذ والمسؤولين في جدول زياراتهم لابد أن تكون محطة لنيل شهادة دكتوراه فخرية.. يملك أحدهم الجاه والمال والنفوذ، ويستكثر على من درس وتدرج لقبه، ويحسده عليه لأنه يملكه، فيقوم باقتناصه وشرائه، وربما تحوّل إلى كاتب..!
وإذا سأل المرء نفسه عن الأسباب التي جعلت غير الدارسين يحملون لقب الدكترة! فأحدهم دكتور وليس جامعياً، والآخر لا يحمل الثانوية! فإنه لابد أن يقف عند ثقافة مجتمعية كرستها الأنظمة العربية، فالمهابة للدكتور، لذلك أحدهم يشتريها ليصبح مسؤولاً، وأحدهم بمجموعة مقالات غير مطبوعة يشتري، لأنه يريد أن يصبح مسؤولاً، والمسؤول الدكتور غير شكل! أمَا من نظام يخضع هؤلاء لقانون المعادلة للشهادة قبل أن يستعمل اللقب؟ الشهادة المشتراة لا يسمح باستعمالها، لأنها تزييف، وأطرف وأغرب الموضوعات عندما نجد هذا اللقب سابقاً لأسماء مسؤولين، وربما بعضهم حصل على اللقب بعد تعيينه في موقعه، ويأتي الموقع ليطوّبه دكتوراً على سنّ ورمح، وهو إن تكلم لا يبين، وإذا كتب لا قيمة لما يكتب، وإذا غادر المكان أثيرت علامات الاستفهام حول شهادته! ويسأل المرء نفسه: إذا كان هذا المسؤول قد كذب واشترى وصدّق نفسه، فكيف يمكن أن يكون صدق أدائه لمهامه؟ إذا كان قد أسهم في تزييف شخصه فماذا سيفعل بالمجتمع، إن أسبغ على نفسه صفة لا يملكها فكيف سيتعامل مع المادة التي لا يملكها؟
لم يكن المتنبي حاملاً لشهادة، وكل الشهادات تقام على قافيته.
لم يكن سارتر حاملاً لشهادة عليا، لكن الوجودية تدور في فلكه.
لم يكن شكسبير دكتوراً ولم يزاحمه أحد على أبوته للمسرح.
وفي المقابل كان مهاتير محمد دكتوراً، ولم يكن يخاطب به، وكان محمود أحمدي نجاد دكتوراً ولم يخاطب به، وأغلب المسؤولين في المشارق والمغارب يحملون الشهادات ولا ينادون بها، بل إن عدداً قليلاً من أساتذتنا وقد تجاوزوا مرحلة البروفسور يكتب اسمه أعزل بلا ألقاب.
إنه العلم وسر العلم، وعندما يكون الإنسان عالماً أو متعلماً يستحي من أن يخاطب بعلمه، ويفضل أن ينادى بشخصه، أو باسمه، عملاً بما جاء في الأثر: الناس رجلان عالم أو متعلم، ولا خير في سواهما، فكن الاثنين واكسب الدارين، إذاً العلم أكثر من حياة، وليس أكثر من لقب ليحرص عليه كل إنسان حتى لو لم يستحقه، وخاصة في مجتمعي الساسة وعلماء الدين.. هما أكثر من يهبط عليه اللقب ويتقبله كما لو أنه خلق معه.. إنه العلم.. نزار شاعر عظيم، لكن نقيصته أنه لم يحصل على الدكتوراه!! ومثلها ألقاب مثل العالم، العلامة، الفهّامة..! والفاضل والفاضلة!.. والمناضل.. وو.. اللقب سيرة وحياة وليس لباساً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن