ثقافة وفن

عن الخلود وسرّ الخلود…

| إسماعيل مروة 

هل من عبث بحث جلجامش عن الخلود والتجذر والبقاء؟ وهل من عبث أن تكون ملحمة الخلود في أرضنا، وأن تبدأ الرحلة منها لتنتهي فيها؟ من أرضها إلى أرضها رحلة خلود وبحث عن خلود أمضى جلجامش رحلته المرهقة، وما بين أنكيدو والحوريات أمضى جلجامش رحلته التي تجسدت في عشبة بحثاً عن ديمومة الحياة، وما أظن جلجامش في رحلته الأسطورية كان جاداً في البحث عن الخلود والبقاء، فهو بقدر بحثه وتعبه وانسياقه ومغامراته كان أسير اللحظة، لحظة الارتواء مما يحب، وما أشبه رغبة برغبة، فالحوريات غلاف جلجامش ورحلته، والحوريات غاية لهذه الرحلة، والمرأة انحياز لافتقاد الخلود، وإن شابهها النوم والغفلة! ومن جلجامش الأسطورة إلى رحلة الإنسان المسجلة في لوح محفوظ، سواء غلفته الأسطرة أم غلفه الإيمان بغائب قد لا يتحقق أو بغيب غير مرئي، من… إلى أن كانت رحلة البحث عن الطاقة والاستمرارية والبقاء، وبتعبير أسطوري كانت رحلة البحث عن الخلود الذي لا يكون! فهل كان البحث عنه إيجاباً أو سلباً؟ يحضرني في هذا السياق ما قاله الشاعر محمود درويش بعد أن أفاق من غيبوبة طويلة قبيل رحيله بسنوات، فقد تعرض لغيبوبة استمرت وقتاً طويلاً، وبعدها عاد إلى حياته الطبيعية، فتحدث عن تلك الرحلة الطويلة، وعند حديثه لمحدثته عنها قال: بعد هذه الرحلة إلى عالم آخر لا يعنيني أن يقرأ الناس شعري، ولا يعنيني أن تطبع أعمالي بعد رحيلي، ولا يعنيني أن يتناول النقاد شعري، ولا يعنيني أن تقال المدائح بشعري، كل ما يعنيني أن أعيش مرتاحاً أقول الشعر، وفي رحلتي اكتشفت تفاهة الحياة، وأن الخلود ليس إلا وهماً، وأنه اسم نبحث حوله..! ومن قبل كان للشاعر القروي رشيد سليم الخوري الموقف الأسمى، فبعد سنوات طويلة فرض عليه الغياب عن الشام في المهجر، وحين عاد رأى أنه سيان عنده إن أمر السجان بإعدامه، فقد طرح عنه في البحر كل آثامه، وبأنه عليه أن يسبح بحمد الرب وينحر لأنه في الشام، فقد كان لقاؤه بالشام هي لحظة الخلد والخلود، اختصرت ما قبل وما بعد.. ويبدو أن الحديث عن بقاء الأحاديث والذكر هي ضرب من التهيؤات التي يلهو بها المرء عن العمل للحظة، فما يبقى سلباً أو إيجاباً مخصوص بأناس من نوعية محددة، ولا يطول كل الناس، وإلا كنا نردد سيرة الأهم من الناس، الذين بجهدهم تصبح حياتنا نظيفة جميلة خالية من الأمراض، فكم من عامل لم ينل منا ذكراً، وكم من طبيب شفانا، وكم من مهندس آوانا، وكم من معلم ألهمنا! وكم وكم ولكن الذكر الذي نتوهمه هو الخاص بشريحة محددة من الناس، نحن من نمنحهم البقاء والخلود أكثر مما يفعل ذلك عملهم، فالخلود الذي ناله قابيل نحن من وهبناه إياه بوهم الخطيئة والجريمة.
تدور دورة حياة أحدنا كما تدور دورة الدول، يولد، يشب، يهرم، يرحل، كما الدول، وبعد الرحيل والزوال لا يعرف الشخص مآله وقد صار عبرة، ولا يعرف رجال الدولة مصير تركاتهم التي تركوها، ونردد ذكرهم سلباً أو إيجاباً إلى أمد قريب، ثم يغيب بعضهم عن الذاكرة، وحين تمتلئ الشاشة بهم نقوم باستبدالها، وإن لم نفعل بأنفسنا، فإننا نرحل لتأتي شاشة بلا ذاكرة، ولن تنفع كل العبارات الإنشائية التي يصوغها أحدنا في امتداح أو ذم امرئ القيس أو المتنبي أو هتلر أو نيرون أو زنوبيا، فتبقى هذه مجرد عبارات تناسب الهوى في لحظة ما، والطريف أن لحظة خلود زنوبيا كانت لدى الدارسين، ومن دون أدنى شك من اختيارها للموت بالطريقة التي اختارتها، ولا يعنينا هنا الخلاف على طريقة الموت والوسيلة، لكن النتيجة كانت نهاية زنوبيا من دون أن تحظى باتفاق على خلود رحيلها.
ولو كانت الرحلة الطويلة ممكنة أو ممتعة على أحسن تقدير ما تمنى أحدهم العودة إلى مراحل القوة والشباب، وقلة هم الذين يستمتعون بأعمارهم كما هي، كما بقية الناس يحنون إلى المراحل الأولى، مراحل الصبا والشباب، ويودون مغادرة الشيب باكين لفراقه، وإن كنا لا نعرف سوى مواقف الأدباء الذين تركوا أثراً مكتوباً، فهم يحنون إلى البداية، إلى القوة والخصب، ولا يحنون إلى ما بعد، الخلود وفكرته غير مطروح لديهم! لأن الخلود رهن بأسبابه، وأسبابه القوة والخصب والجنس، ولو استمرت أسباب الحياة ما حن أحدهم إلى العودة للماضي الذي يمثل في حقيقته القوة والإقدام والخصب، بينما في الحياة المتطاولة يصل المرء إلى العجز الذي مثلته عشبة الخلود التي تمّ التهامها وانتهى ملتهمها إلى النهاية الحتمية المرسومة بعكس فكرة الخلود المزعومة!
إن هذا الخلود سراب، سراب حقيقي إن بحث عنه أحدنا لأنه يريده، ويمكن أن يتحول إلى ما يقارب فكرة الخلود عند من لا يبحث عنه بحثاً حقيقياً وحثيثاً، يصل إلى ما يقاربه من يفكر بذاته وبالآخر، من يفكر بالعيش والتفكير كما يشاء خارج ثقافة القطيع، وكل ما يمكن أن ينضم الإنسان في ثقافة القطيع، وفي بوتقة الموجة السائدة لن يصل إلى الخلود حتى بفكره، والخلود لن يكون جسدياً بعد كارثة أنكيدو وجلجامش، أما خلود الفكر فإنه محصور بشكل قاطع بالإبداع والحرية، فالمتنبي وصل إلينا لأنه كان أكبر من واقعه السياسي، ومارس حريته كما شاء إبداعه وبحثه عن فكرته في الخلود خارج إطار المنظومة التي كانت سائدة، ولو أردنا أن نعدد أسماء العرب الذين نجحوا في اختراق منظومة القيمة والمجتمع، وفي كل المجالات، فإننا لن نجد أسماء كثيرة، كان من الممكن أن تصل، وصلت من خلال انتهائها بتهم الزندقة والكفر والخروج عن المنظومة القيمية المجتمعية.
الخلود لا يكون إلا على أرض الواقع، وتنتظمه حياة حافلة بالإدهاش، وحين يصل أحدنا إلى الدهشة يلامس الخلود بأطراف أصابعه، لأنها تكون السماء البعيدة التي يلامسها للحظات، ثم لا ينفك يبتعد شيئاً فشيئاً، وهي تعود إلى قبتها حيث تركن… الخلود ليس سكوناً أبدياً في حضن لا يتحدث، بل هو حالة حياتية يقترب فيها المحال من الشجاع القوي الطامح إلى الخلود، يقترب شيئاً فشيئاً، يسكنه، ويتماهى به ليعود عنه من جديد بانتظار دهشة اقتراب ذات لحظة من زمن محال… فكرة الخلود هي فكرة قبلية يعيشها عاشقوها، ويضعون خطوطها بل يصنعونها بأيديهم، ولا ينتظرون الرحيل ليقوم بتطويبهم لاحقوهم، فاجتماع رجال الدين بعد عقود وقرون لتطويب قديس أو قديسة يعني الأتباع، لكنه لا يعني المطوّب بحال من الأحوال، وخاصة إن عاش مطروداً مهاناً معذباً… واجتماع رجال الدين لتدارس سيرة أحد العلماء ونفي تهمة الزندقة عنه لا يمثل شيئاً له، وربما عنى شيئاً لمن يبحث عن خلود بعده… الخلود رسم يصل ما بين وبين، يعلنه صاحبه، ويرسم له قبل عقود! ألم يرسم ذلك مانديلا ونسج خيوطه بين بقاع الأرض؟ ألم يشهد اكتمال مشهده في خلد لا ينتهي وخلود لا يطال..؟
إن سرّ الخلود يجعل حياتنا أكثر جمالاً وإمتاعاً إن وعيناه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتحول الخلود إلى فكرة غيب وترقب، وعندما يتحول يفقد جوهر الدافعية للوصول إليه، والارتقاء إلى مستواه ذات لحظة من زمن غير مرئي، وإلا تحوّل الخلود إلى خيط رفيع رفيع يقتل ويذبح من دون أن يراه أحد، ومن دون أن تخرج عنه نقطة دم واحدة، فيتحول الخلد إلى أيديولوجيا قاتلة بدأت بجلجامش وأنكيدو، وتختار قتلاها ممن تجد اقترابهم من لحظة التماهي والالتصاق بين مثل ومثال، وساعٍ إلى سرمد من خلد يحياه، يستمتع به، ويبدع في استكناه غوره الذي لا يكتشفه إلا العابد الناسك الذي يرى الخلود مثالاً لا يطال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن