ثقافة وفن

الحدود السياسية متبدلة أما الوطن فلا حدود له ولا يتبدل … دمشق تودع الآثاري د. عفيف بهنسي صاحب المعرفة الموسوعية وأحد مؤسسي كلية الفنون

| سوسن صيداوي -ت: طارق السعدوني

حروف الكلام لا تسعف الشعور، الحديث عن الخسارة والفقدان أمر صعب، والأصعب عند التعبير الصادق الخالي من المبالغة أو المزايدة، وخاصة عندما يكون محور الحديث قامة كبيرة، شامخة كجبل قاسيون، منارة علم للعقول. رحل عنا صاحبها جسدا، لكنّ عطاءه ونتاجه الفكري وحبه الكبير لسورية سيبقى إلى أبد الدهور، محفورا في التاريخ السابق واللاحق من الزمان، كإرث حضاري، بقيمة ما تضمّه المتاحف من آثار. دكتور عفيف بهنسي صاحب الأصل الدمشقي المتجذّر إلى نحو أكثر من ألف عام. رحل ولم ألبِّ دعوته، وتقاعست عن الزيارة، لكنني لن أنسى يوماً دعمه لي بقراءة كلماتي المركّبة الحروف. غيّبه الموت يوم الخميس عن عمر ناهز التاسعة والثمانين عاماً في منزله بدمشق. متوفى وفاة طبيعية وصُلي على جثمانه بعد صلاة ظهر يوم البارحة السبت في جامع الروضة بدمشق، ثم ووري الثرى في مقبرة الشيخ رسلان.
غادرنا الباحث والآثاري والفنان التشكيلي بعد مسيرة علمية حافلة امتدت لأكثر من ستين عاماً، قدم خلالها لسوريته الكثير سواء في الفن التشكيلي والعمارة والآثار في البحث الفني. ويجدر بالذكر أن الدكتور عفيف بهنسي من مواليد دمشق 1928، حاصل على دكتوراه في تاريخ الفن من جامعة السوربون بباريس بدرجة شرف عام 1964، وبعدها بأربعة عشر عاماً عاد إلى الجامعة ذاتها ليحصل بالدرجة ذاتها على دكتوراه الدولة، والشهادات الأخرى التي حصل عليها، كان درس في دار المعلمين، ونال الإجازة في كلية الحقوق، ودبلوم العلوم الإدارية من جامعة دمشق عام 1950. كما تقلّد العديد من المناصب، فكان أول مدير للفنون التطبيقية والتشكيلية (الفنون الجميلة فيما بعد)، كما كان له الدور الأهم في تأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1960، وفي وقت لاحق ساهم في تأسيس نقابة الفنون الجميلة وأصبح أول نقيب لها، ثم مؤسسا مراكز الفنون التشكيلية في سورية. ومن المناصب التي تقلّدها الدكتور عفيف موقع المدير العام للآثار والمتاحف، وفي عام 1972 أنشأ عشرين متحفا للآثار والفنون والتراث في أنحاء سورية، وشملت هذه المتاحف: المتاحف الأثرية ومتاحف الخط العربي والفنون والفسيفساء وأخرى للتقاليد الشعبية. هذا وقدم الباحث للمكتبة العربية والعالمية أكثر من 82 مؤلفا نالت شهرة عربية وعالمية، مترجمة إلى لغات أجنبية عدة، كما شارك في تأليف موسوعات عالمية ووضع كتبا بلغات أجنبية، ومن قائمة مؤلفاته:الفن عبر التاريخ، الفن الإسلامي، سورية التاريخ والحضارة، العمران الثقافي، موسوعة التراث المعماري وغيرها. كما نال إضافة لوسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، أوسمة من عدة دول منها على سبيل الذكر وليس الحصر إيطاليا والدنمارك وبلجيكا وألمانيا، كما نال الكثير من الجوائز والميداليات وشهادات التقدير من هيئات علمية وثقافية عربية وعالمية. وأخيراً والأمر الذي لا يمكننا إغفاله أبداً من ناحية المجتمع الأهلي والمدني، أن للدكتور بهنسي سبق الريادة تأسيساً في جمعية أصدقاء دمشق والإدارة في مجالسها المتعاقبة.

من البداية
نهل العلم لم يعرف في حياة دكتور بهنسي أي تقاعس أو تلكؤ، بل كان يسابق الأيام للحصول على أهم الإجازات العلمية، فبعد نيله الثانوية حصل على إجازة دار المعلمين وإجازة في الحقوق، وفي عام 1950 حصل على دبلوم العلوم الإدارية من جامعة دمشق، وبعدها سافر إلى باريس كي ينال دكتوراه في تاريخ الفن من جامعة «سوربون» بمرتبة شرف، ثم ألحقها في عام 1978 بدكتوراه دولة عن الموضوع نفسه وبمرتبة شرف أيضاً، وحول توقه اللامحدود للعلم قال: «لقد ولدت من بيئة ثقافية، وفي مراحل دراستي كنت دائماً أحقق طموحات كي أكون أستاذاً جامعياً، هذا الهدف بقي ملازما لي ويلاحقني ويرافقني بشكل دائم أثناء مطالعاتي لكثير من المؤلفات. في بداياتي كنت قاصاً وأكتب في العديد من المجلات، وكانت هذه القصص والروايات تعبيراً عن موقف وهو بالفعل موقف قومي اجتماعي إنساني».

تأسيس كلية الفنون الجميلة
لقد ساهم الدكتور بهنسي بتأسيس معهدين متوسطين للفنون التطبيقية وللآثار والمتاحف، وثلاثة مراكز للفنون التشكيلية والتطبيقية، كما ساهم بإنشاء كلية الفنون الجميلة في دمشق في عام 1959، متحدثا عن هذه المرحلة «في أيام الوحدة بين سورية ومصر كنت أنا في باريس أدرس الفنون، في تلك الأثناء قال لي عبد اللـه عبد الدايم (إن وزير الثقافة الجديد الذي أسس هذه الوزارة في عهد الوحدة يريدك أن تحظى بها). هنا بدأت في الوزارة كمدير للفنون وانتهيت كمدير عام لمديرية الآثار والمتاحف، وفي هذه المرحلة كنت أكتب عن الفن والحضارة وعن العمارة، كما أنني وجدت أنه من نطاق عملي أستطيع أن أحقق هذه الأفكار عملياً وكنت سعيدا بمواقعي الوظيفية. في أيام الوحدة قمت بزيارة وزير الثقافة المركزي ثروت عكاشة الذي كان قد دعاني لحضور افتتاح كلية الفنون في الإسكندرية، وفي وقتها سألني إذا كانت دمشق تحوي كلية فنون، فقلت مع الأسف لا يوجد، وفي ذلك الوقت صدر مرسوم بتوقيع الرئيس جمال عبد الناصر، وأنا استحضرت مجموعة من الأساتذة وأنشأنا ما أصبح اسمه كلية للفنون تشمل الفنون التشكيلية والعمارة، ومن هنا كلية الفنون في دمشق أصبحت تعلّم الرسم والنحت والحفر والزخرفة والعمارة».

إنجازات…لم تنته
من الأمور الكثيرة التي برع بها الباحث والعلامة بهنسي، البحث والتأليف حيث وضع مجموعة كبيرة من الكتب وصل عددها إلى اثنين وثمانين كتابا شملت موضوعات الآثار وعلم الجمال والعمارة والفنون العربية والإسلامية والفنون التشكيلية، كما خاض غمار الفن التشكيلي رساما ونحاتا، ومن أهمها في مجال النحت عدة تماثيل منها ثلاثة تماثيل للجاحظ، وتماثيل أخرى للفارابي وابن سينا وابن النفيس وزنوبيا ملكة تدمر، هذه التماثيل موزّعة على حدائق وشوارع دمشق، ليس هذا فقط بل شارك الدكتور عفيف في تصميم الطوابع البريدية والعملة الورقية السورية.

من ذاكرة «الوطن»
في يوم الثلاثاء الواقع في 13/06/2017، نشرت صحيفة «الوطن» حوارا خاصا مع الآثاري عفيف بهنسي، وشمل الحديث العديد من النقاط حول حياته ومؤلفاته وعلومه، وسنورد لكم بعضا منه.

العطاء لا يمكن أن ينضب، ومهما تتالت عليه السنون فهو باق وهو صفة منسوبة إليك.. حدثنا عن طلبك للعلم والمعرفة وعن أبحاثك التي أنارت طريق أجيال عبر مسيرتك وهي مستمرة إلى ما بعد هذا الحين بكثير؟
في جميع المصادر التي نشرتها حتى الآن، أعرض للتجربة التي امتدت حتى اليوم تسعين عاماً منذ ولادتي في هذه المنطقة منطقة الروضة في دمشق إلى اللحظة التي سأغادر فيها ولكنني واثق من أنني لن أغادر، أنا قلت دائماً إن الإنسان الذي يعطي يبقى عطاؤه قائما، أما الإنسان فهو زائل بطبيعته، ومع ذلك أنا سعيد أن هذا العمر الذي قضيته لم يكن هباء، وقدمت فيه ما أستطيع أن أقدمه لسورية الوطن، وليس لهذا الوطن فقط لأن المعرفة لا تخص الجغرافيا وإنما تخص الإنسان. هذه المنطقة التي تربيت بها، تطورت بعد الحرب العالمية الثانية لتكون أحياء، وتطورت أيضاً من الناحية العمرانية ومن الناحية السكانية، وكنت أنا فردا من عائلة عاشت زمنا طويلا في دمشق، واستطعت أن أتقصى حياة أسرتي، التي كانت تعيش هنا من ألف عام على هذه الأرض بشكل خاص، لذلك أنا متمسك بهذه الأرض ومتمسك بهذا الحي، لا أريد أن يفهم القارئ أو الصديق أنني عزلت كل ما يحيط بهذه المنطقة من جغرافيا أو تاريخ، فالوطن لا حدود، لأن الحدود السياسية متبدلة أما الوطن لا يتبدل.

مع تطور الحضارة المتسارع كيف كان تفاعلك؟
أنا وطني هو الأرض العربية كلها وحيثما كانت هناك لغة عربية كانت أمة عربية وكانت حضارة عربية، وكنت أنا تلميذا لهذه الحضارة، ثم شاهدا على تطورها، ثم فاعلا في الكثير من ركائزها، التي تطورت مع تقدم الحياة المتطورة بشكل شاقولي، بعكس السابق حيث كانت تتطور الحياة بشكل أفقي، أما في الوقت الحالي فهي تتطور بشكل شاقولي بسبب التكنولوجيا وتزايد السكان وحاجاتهم وحتى الحاجات الثقافية، أنا كنت شاهدا على هذا التطور السريع ومن حسن حظي أنني كنت متسارعا مع هذا التطور ومتماشيا معه.

في محطات حياتك الوظيفية…لم تتعامل مع عملك على أنه مهنة، بل كانت الوظيفة لك محطة عبور نحو الحضارة وما تكتنزه من أسرار.. حدثنا عما أضافته إليك في مسيرتك المعرفية العلمية؟
لا أريد أن أتحدث عن يومياتي بقدر ما أريد أن أتحدث عن اللحظات التي كنت فيها أسجل إنجازات تمت في نطاق عملي الذي أحببته دائما، قلت دائماً الإنسان يستطيع أن ينجح، عندما يختار العمل الذي يحبه وعندما يختار المهنة التي يحبها والتي يستطيع أن يبدع فيها، عملي الوظيفي، أنا لم يكن عملي الوظيفي مهنة، بل كان مسؤولية وكان رسالة وكان مشروعا. وضعت في البداية لنفسي مشروعاً، هذا المشروع يتضمن أولا التعريف بهذه الأمة وبدورها الحضاري، لأن هذه الأمة هي ابتدأت التاريخ، قلت قبل لحظات إنني سعيد في عملي، فعملي في مديرية الآثار والمتاحف عرفني تماما أن هذه الأرض كانت موجودة منذ بداية التاريخ، وأن هذه اللغة كانت موجودة منذ بداية التاريخ، وما زال الناس حتى الآن يعتقدون أن الكلام عن العروبة يعني الكلام عن العصبية، وأنا لا أريد أن أتكلم عن العصبية بل أريد التكلم عن أن هذه العروبة، هي لغة، وشاهدي في ذلك المصنفات والكتابات والنقائش، فكل ما يمكن أن يسمى كتابة كان هو بداية اللغة العربية، المعاجم المقارنة بينت أن اللغات القديمة لم تكن لغات بقدر ما كانت لهجات وأن اللغة العربية هي كمال هذه اللهجات، إذاً عندما أتحدث عن العروبة لا أتحدث عن عصبية بل أتحدث عن لغة، والأرض العربية هي الأرض التي يتكلم فيها الناس اللغة العربية، وخارج هذه الأرض يوجد إسلام وتوجد عصبيات أخرى وقوميات أخرى ولكن أيضاً يوجد وطن. يحز في قلبي أننا حتى الآن لم نستطع أن نحقق ما تتطلبه هذه اللغة من وحدة، ليست اللغة العربية وحدها كافية ولكنها الدافع وهي الأساس الذي يدفعنا كي نحقق وحدة حقيقية، وحدة اقتصادية، وحدة ثقافية، وحدة سياسية، لأن عناصر الوحدة موجودة، هناك من يرون أننا نتحدث عن عصبية ويقولون: نحن لسنا عرباً نحن فينيقيون، هذا كلام غير علمي، نعم لقد كانت الفينيقية مرحلة من مراحل تطور التاريخ، واللغة الفينيقية هي لهجة من لهجات اللغة العربية القديمة، أنا أناشد مجمع اللغة العربية دائماً أن يهتم دائماً بهذا الموضوع، ذلك لأننا نريد أن نؤكد للعالم أن العروبة ليست عبارة عن موقف بل العروبة هي أصالة.

قدمت أكثر من اثنين وثمانين مؤلفاً…منها ما أصبح مقررا في الجامعات ومنها ما تمت ترجمته إلى لغات أخرى؟
هذا صحيح. قمت بتأليف كم كبير من الكتب بعض هذه الكتب ترجمت إلى اللغات الأجنبية وأصبحت فعلا مقررة في بعض الجامعات على أساس التعريف في تطور العمارة والمستقبل، العمارة والمعاصرة، العمارة والاستشراق، كل هذه الكتب التي صدرت تحمل هذه العناوين وكانت فعلا استجابة للباحث الذي يريد أن يعرف ماذا يريد أن يحدث، لأنه كان يحدث تشكل غير طبيعي وتنوع وإبداع، فمثلا وبخصوص العمارة، أنا أذكر جيداً في دمشق أو في سورية كلها، في الستينيات لم يكن هناك مهندس معمار واحد، في السبعينيات ظهر معمار واحد أو اثنان، إذ أُنشئت كلية العمارة في دمشق وفي حلب، وبعدها في غيرها من المدن، وأصبح هناك معماريون، فالمهندس المدني هو غير المعماري، الأخير هو مهندس مبدع ويتطلب فناً وإبداعاً، على حين المهندس المدني هو مهندس مؤسس ويريد أن يجعل البناء قوياً ومتيناً، وبالطبع يجب الإبداع شرط ألا يخرج عن حاجة وتطلعات وهوية ساكنيه فهذه النقطة الأهم، كانت مشاركاتنا بلجان التحكيم للعديد من المسابقات، إحداها المسابقة كانت حول إنشاء برلمان في سورية إضافة إلى البرلمان الحالي، لا يوجد اختصاصي للبرلمانات، ولكن يوجد برلمانات في كل دول العالم وهي تحمل هوية دولها، فمثلا البرلمان البريطاني هو رمز لبريطانيا كلها، لذلك أردت أن أقول ونحن نطلع على الأعمال في المسابقة، إننا نريد أن نعرف إلى أي مدى سيكون هذا المبنى شعارا لهوية معينة اسمها الهوية المعمارية والهوية المدنية. بشكل عام كل هذا حاولنا أن نغطيه في عدد من المؤلفات التي ترجم بعضها وما زالت سائدة حتى الآن.

لم تكتف بالبحث عن جمالية الفن العربي والخط العربي بل سعيت جادا إلى وضع مصطلحات عربية لمصطلحات أجنبية من خلال المعاجم التي قمت بوضعها وصدر منها واحد من مجمع اللغة العربية؟
قدمت عدداً من المعاجم التي كانت بداية تحركي، فمنذ عام 1970 كلّفني مجمع اللغة العربية بدمشق، تقديم معجم مصطلحات الفن ثلاثي اللغات، وكان هذا المعجم هو فاتحة لمعاجم صدرت في مكتبة لبنان باللغة الفرنسية والإنكليزية، هذه المكتبة مهتمة جداً وكانت أصدرت أكثر من ألف معجم، الشيء الجديد الذي كلفته، هو معجم فريد من نوعه هو معجم مصطلحات الخط العربي والخطاطين، إذ يتضمن معاني المصطلحات التي وردت على لسان الخطاطين أو التي تخص تقنيات الخط، إضافة إلى لمحات تعريفية بالخطاطين المسلمين الأكثر شهرة، والأكثر حضوراً في تاريخ الخط العربي، وهذا معجم لم يسبق أن فكر به أي عربي، فالخط يعبر عن عبقرية العربي الإبداعية التشكيلية، هذا النوع من المؤلفات يأخذ وقتا طويلا لتحضيره ويحمل مسؤولية لواضعه، لأن كلمة مصطلح تتطلب منا البحث في المعاجم القديمة عن تعريف لهذا المصطلح بالأجنبي، واللغة العربية غنية جداً والكلمات والمصطلحات مدفونة في الكتب القديمة، حاولنا نبشها كي تأخذ مكانها الصحيح مقابل مكان المصطلح الجديد في مجال الفن خاصة وفي مجال علم الجمال حيث أصبح هناك مصطلحات، يستعيرها كاتب الموسيقا وكاتب الأدب والكاتب في علم البيان وإلى ما هنالك. إذاً استطعت فعلا أن أقدم مصطلحاً عربياً جيداً لمصطلح أجنبي كانت الأقطار العربية تختلف في تفسيره وحتى في تأويله، هذه الأمور تعنيني جداً وكانت بالنسبة لمؤلفاتي الأكثر أهمية.

وأيضاً جمالية العمارة تعنيك كثيراً، فالعمارة أنت لا تراها مجرد وسيلة للسكن؟
طبعا.. كما استهواني تاريخ الفن، كذلك استهوتني العمارة، وقمت بتأليف ما يقرب من خمسة عشر كتابا. وبالفعل العمارة ليست وسيلة للسكن، هي فعلا الوعاء الذي يستوعب كل مجالات الإبداع، هذا عدا أن هناك فرصة لتحسين حياة الإنسان وتحقيق طموحاته إلى أن يعيش في بيئة هادئة وساكنة، وأيضاً أن يعيش في جنة، وقلت إن المسكن هو فردوس صاحبه، وهذه الجنة لا يمكن أن تكون إلا بالزخارف والكتابات وحتى بالأثاث، كل ذلك استطعت أن أقدمه، وتبين لي أن العمارة العربية الإسلامية أيضاً أصيلة ويمكن أن نتعرف عليها وأن نبين تطورها وارتباطها بالطبيعة التي نعيشها، فهناك الطبيعة العامة من مناخ وطقس، وهناك طبيعة الإنسان، والأخير بطبيعته روحاني، لذلك البيت مفتوح من فنائه نحو السماء، كي يعيش المرء في سكون وهدوء بعيداً عن الناس وحتى عن عوامل الطبيعة من تبدل المناخ. فلسفة العمارة قدمتها بشكل مستقل ولكنني قلت إن العمارة تتطور بشكل عام، فخلال القرنين الآخرين في العالم، تبدلت العمارة، لم تعد عمارة تقليدية مكررة مثل العمارة الكلاسيكية، بل أصبح هناك طرز مختلفة ومن ثم وظائف مختلفة، يعني لا يمكن أن يكون هناك عمارة للمستشفى مثل العمارة للمدرسة لذلك اختلفت العمارات، ووجدت فعلا أن شيئاً جديداً حصل الآن وهو عملية الاستشراق، ووجدت أن الغرب يبحث فعلا أكثر من المواطن الشرقي عن طابع يعبر عن بيئة تختلف عن بيئته، وهذا ما يمكن رؤيته من عمارات في دول الخليج أو في الدول العربية في محاولة جادة جداً لأبنية وعمارات تعبر عن سمات لها علاقة إما بالطبيعة وإما بالجغرافيا، وإما بطبيعة الإنسان، ولكن في الوقت نفسه أنا انتقدت عملية الاستغراب، فهناك استشراق وهناك استغراب، فنحن لا نستطيع أن نقبل بأن أي مسكن يمكن فقط أن يحقق السكن، أو الإيواء، فكل عمارة لا بد أن تحوي أيضا، متطلبات الإنسان المعنوية والنفسية والصحية وأيضاً التاريخية فالأمر مرتبط بتقاليده.

الكلمة والفكر المخلوقان على ورقة من حبر هما هاجسك منذ زمن بعيد ومؤنسك في معظم أوقاتك.. أمازلت تتابع الكتابة؟
أنا الآن أتابع الكتابة وأردت أن أصل إلى نقطة أساسية وهي أن كل هذه الأشياء، العمارة، الفن، علم الجمال… ترتبط بهوية، وأنا أؤمن بأنه لابد أن نحافظ على هذه الهوية، والهوية ليست كلمة وهي فعلا حصيلة تطور وحاجات وتطلعات وأذواق وهذا يجب أن يكون كله حاضرا في ذهننا ونحن نكتب الإبداعات هذه.

في أثناء عملك في مديرية الآثار والمتاحف.. قمت بتأسيس العديد من المتاحف في المحافظات، هل المتاحف كافية لحماية الموروث التراثي لدينا؟
من خلال عملي في الآثار والمتاحف كنت أعتبر أن المتحف ليس مخزنا للآثار بل هو حاضن للتراث وحاضن للإبداعات وأن ما تم اكتشافه يجب أن يكون له محل لائق فأقمت في كل المحافظات متاحف، وهذا أمر أنا أعتقد أن له أهمية بالغة، لأن ما نملكه من تراث يجعلنا نفتخر، صحيح أنه لا يوجد على أرضنا أهرامات أو أبو الهول، ولكن يوجد تنوع رهيب جدا، ولذلك في كل متحف في كل محافظة نملك من التنوع ما يجعلنا عرضة لاهتمام العلماء في العالم.
أنا اليوم أشعر بالراحة لأن القائمين على الآثار والمتاحف أصبحوا يدركون أن مديرية الآثار ليست مديرية عادية وأنها فعلا مركز أبحاث وهي مركز تعريف بحضارة تاريخ هذا القطر، وهنا أريد أن أقول إننا جزء من الحضارة العربية ونحن نشارك بهرم الحضارة العربية ولا شك بأننا نصطدم اليوم بآفة السلفية والإرهاب الذي أراد أن ينتقم من العلم ومن المعرفة ومن التراث، فأنا لا أستطيع أن أحدد ماذا يريد هؤلاء عندما ينقضون روائع التراث التي تثبت عظمة التاريخ وعظمة الإنسان، فهي ليست عبادة الصنم إنما هي أعمال قام بها إنسان عبقري، فلوحة الجوكندا مثلا فرنسا كلها تبيع نفسها ولا تبيعها، وأنا أتألم كيف أرى في تدمر الأعمال التي قمنا بإعادتها وبإنشائها كيف أصبحت الآن أنقاضا، ولكنني أؤكد أن زملاءنا العاملين في الآثار هم قادرون على إعادة البناء وتقويم هذه العمليات التخريبية، وأننا نستطيع أن نحقق رسالتنا على الرغم من كل هذه الهجمات الهمجية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن