اقتصاد

روسيا المدنية

| علي محمود هاشم

تحت ظلال شبكة الربط الكهربائي العابرة للحدود السورية العراقية الإيرانية التي وقع اتفاقيتها وزير الكهرباء في إيران مؤخراً، يُستلمح تدفق التيارات الاقتصادية العالمية شرق المتوسط بعد قرون من تحوّلها لمجرد عبارات صماء يتجرعها الأحياء في كتب تاريخهم.
ليس اليوم ولكن ليس ببعيد، قد تختبر شعوب المنطقة بالفعل مقولة التاريخ الذي «يعيد نفسه»، ففي الصحراء السورية العراقية، قطعت عجلة الهيمنة الاستعمارية الأعتى ميلها الأخير، و«تحول الزمن إلى تاريخ» مدوّناً مسقط رأس النظام العالمي الجديد، وكما هي عادتها السرمدية، تحولت جغرافيتهما منصة عالمية قدمت روسيا على خشبتها لمحة عن تطور تكنولوجياتها العسكرية المذهلة.. بقليل من الشعر، قد يقع المرء بالفعل على سجل مدني لروسيا والصين العظميين في دوائر النفوس في حلب أو لربما تدمر أو دير الزور.
فروسيا التي ذهب الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع تموز الماضي إلى خنق عمقها الحيوي كقوة ناهضة ملوحاً بإعادتها إلى قمقم البحار الثلاثة «الأسود والأدرياتيكي والبلطيق»، هي اليوم، ومن أعالي العرش التدمري، تدفع رأسه عميقاً في مياه «بحار سورية الخمسة» الدافئة مجسدة مفارقة فريدة ما بين روسيا بوتين 2013 التي تجرأ ابن الصحراوية بندر بن سلطان على التهديد العلني بتلقينها درساً أفغانياً جديداً في سورية، وبين روسيا التي دفنت أحلام مرسليه في صحرائها عقاباً لغيابهم يوم لقّن التاريخ درسه الدمشقي العظيم: «اللي ما بيعرفك بيجهلك»!
المنصة التكنولوجية العسكرية الجزلة التي كانتها سورية، وما استدركته روسيا عبرها بعد 4 عقود من غيابها ساعة الاحتلال الصهيوني لبيروت، إنما يثير رغبة جارفة في التعرف إليها كمنصة عالمية لروسيا المدنية: اقتصاداً وتكنولوجيا وثقافة.. فعدا عمن شاءت الظروف اطلاعهم على التكنولوجيات الروسية، قليلون من يعلمون عن تطورها الفائق في ميادين الليزر والطاقة والنقل والطب والفضاء والتطبيقات الزراعية، وبعض هذه الأخيرة تفصله فجوة سحيقة مع الغرب، لمصلحتها.
في سوتشي الشهر الماضي، برزت بعض التلميحات عن الجدية الروسية في الإعلان عن ذاتها المدنية عبر سورية، نائب رئيس مجلس وزرائها، بدا متحمساً لاستنساخ الصورة العسكرية الناجحة، في الواقع، يمكن لورشة إعمار مناسبة أن تفيد من الجغرافية السورية كمعرض عملاق في الهواء الطلق لتلك التطلعات، وبين ثناياها، لن تتأخر معاني التنمية التي تدخرها صداقة الشرق عن التدفق، عاكسة مغازي تحالف دوله العظمى على حياة دوله الصغيرة، كما سيفعل نموذج الإعمار السوري ذاك فعله النفسي في عقد المقارنات الحضارية داخل الشرق المحتدم بنفوذ الغرب.
بالمعنى الاقتصادي، أقفل الجيشان السوري والعراقي وحلفاؤهما أفق الأهداف التي ساقت ذلك التحالف العريض من أقصى التكفير إلى أقصى الليبرالية في الحرب عليهما، من هذه النقطة تبدو شبكات الربط الكهربائي كإعلان مدنيّ عن ذلك اللوح الذي سيقرأ عنه الشرق تفاصيل فضائه الجديد، ففي مقابل تشابكها التلقائي مع لبنان والأردن وشمال إفريقيا غرباً، لن تتأخر عن التمدد شرقاً نحو المحيط الهادئ مظللة ممراً تنموياً مناسباً لـ«عقد اللؤلؤ» الصيني الذي ما فتئ الغرب يضرم النيران في حباته الممتدة- موانئ وقواعد إسناد تجاري- على طول السواحل الشمالية للمحيط الهندي مروراً بالمضائق العالمية وحتى البحرين الأحمر والمتوسط.. اليوم، ولأول مرة منذ هيمنة بريطانيا على طريق الهند، تحظى الصين بشراكات حقيقية مخلصة على امتداد «طريق حريرها الصيفي» البري.
في ملخصها، ستكون عملية إعمار سورية والعراق بمنزلة رسالة مسهبة عن المعاني الوجودية للحضور الروسي في الشرق، وعما تقصده الصين من التنمية والشراكة العادلتين من وراء مبادرتها «حزام وطريق».

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن