ثقافة وفن

«ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟ أمل دنقل» فوضوي يحكمه المنطق.. صريح وخفي في آن واحد

| سارة سلامة

أمل دنقل، شاعر ظل مسكوناً بهدف التجاوز والمغايرة والتميّز من دون أي سعي لاهث للشهرة أو النجومية الهزيلة التي تأتي من خارج النص الإبداعي، حيث صدر عن دار الينابيع في دمشق حديثاً كتاب جديد للشاعر السوري ثائر زين الدين بعنوان «ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟ أمل دنقل»، ويقع الكتاب في 200 صفحة من القطع المتوسط، ويضم بحثاً في حياة هذا الشاعر المصري الراحل وشعره وأهم سماته الفنية، والمراحل التي مرت بها حياته فأثرت في شخصيته وتجربته الشعرية، إضافة إلى مختارات من نصوصه التي جاءت من رحم معاناة الناس، مرتبطة بهمومهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية، وكانت قادرة على الوصول، ولمس مشاعر الناس ووجدانهم.
ويركز زين الدين في الكتاب على عوامل القهر والاضطهاد التي عاشها الشاعر دنقل وتعرضه للاستغلال من بعض المحيطين به، وعلى علاقات الشاعر بأصدقائه إضافة إلى السمات الفنية الراقية التي وجدها في شعر دنقل.

ينتمي إلى الجيل الثاني

وقال الناقد والمترجم والشاعر ثائر زين الدين في المقدمة: «أن تكتبَ عن أمل دنقل يعني أن تكتبَ عن شاعر بدأ النشر أوائل الخمسينيات، واستمر في الكتابة حتى فترة قصيرة قبل وفاته، يوم 21 أيار 1983، بكل ما يمثله هذا العمر الإبداعي القصير نسبياً من إنجازات خلابة، عن شاعر ينتمي إلى الجيل الثاني بعد جيل الرواد، من دون أن يجعله هذا الانتماء راضخاً لكثير من القيم الشعرية التي رسخها ذلك الجيل جمالياً ومعنوياً، ذلك أنه ظل مسكوناً بهدف التجاوز والمغايرة والتميز من دون أي سعي لاهثٍ للشهرة أو النجومية الهزلية، التي من خارج النص الإبداعي، والتي تأخذ من الشاعر فوق ما تقدم له بكثير».
وينقل زين الدين عن (عبلة الرويني) قولها: إن أمل دنقل وفي ظروف السبعينيات حدّد دوره وملامح تجربته الجديدة في إعادة اكتشاف الجمال، وتوجيه الناس إليه، حيث رأى أن على الشاعر أن ينهضَ بمسؤوليتين أو دورين في آن واحد، دور فني لأن يكون شاعراً، ودور وطني بأن يوظَف فنه بخدمة القضية الوطنية، وخدمة التقدم، من خلال عادة اكتشاف وكشف تراث هذه الأمة وإيقاظ إحساسها بالانتماء، وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها.
فوضوي يحكمه المنطق

ثم إن دنقل كان صعيدياً حتى النخاع، شديد العناد، نقياً وصافياً، صريحاً وحاداً في تصرفاته، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالإبداع، فقد كان قادراً على إنزال صوت شعري من فوق المنصة، لأنه يقدم شعراً رديئاً، ولقد اعتبر ذلك قمة الرقي الإنساني حين يمارس صدقه، ويحترم أغلى قيمة، فالشعر لدى دنقل لم يكن يحتمل أنصاف الموهوبين ولا يسكن المنطقة الوسط، وتقول عبلة في وصفه، وهي التي أحبته وعاشت معه حتى وفاته: «إنه الشيء ونقيضه في لحظة نفسية واحدة، يصعب الإمساك بها والعثور عليه فيها: فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبية شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبداً، يملأ الأماكن ضجيجاً وصخباً وسخرية وضحكاً، صامت إلى حد الشرود، يفكر مرتين وثلاثاً في ردود أفعاله وأفعال الآخرين، حزين حزناً لا ينتهي».
وقد ربطت الشاعر علاقات من نوع آخر مع كل من نجيب سرور ود. جابر عصفور، ود. يوسف إدريس، ويوسف السباعي وكان يحب لأصدقائه «ومنهم» ما يحب لنفسه، كان يكره لهم لحظات الضعف مهما كانت، وكانت أسبابها. تذكر عبلة أن أمل كان ذات يوم يقرأ رسالة يوسف إدريس «أتظلم منك إليك» الموجهة إلى رئيس جمهورية مصر منشورة في جريدة الأحرار إثر الهجوم الحاد الذي تعرض له، فأغضبت أمل نبرة الشكوى في أسلوب الرسالة، ومضى يعدل أسلوبها وجملها بقلم أحمر، لكنه عاد ومزقها صارخاً أن يوسف إدريس يجب أن يعلم أنه أقوى من رئيس الجمهورية، وعليه أن يكتب بهذا الإحساس، ثم طلب من عبلة أن تتصل بيوسف وتبلغه بوقوف أمل معه ومساندته النفسية له».
استلهامه من التراث

كثيرة هي السمات والبنيات الفنية اللافتة لانتباه الدارس والقارئ على حد السواء في شعر أمل دنقل منها مثلاً: «استلهامه التراث واستخدام عناصره الهائلة كأدوات تعبيرية، ومنها اشتغاله الخاص على الصورة الشعرية، والبنية الإيقاعية، ومعمار القصيدة وتشكيلها وما إلى ذلك.
ولأن الخوض في كل هذا- لو أردنا- سيدفعنا إلى وضع كتاب نقدي ضخم، وهي ليست الغاية المأمولة من هذا العمل، فسنكتفي بأن نقف على ملمحين فنيين نراهما بارزين في شعر دنقل».
لعل واحدة من أهم ميزات شعر دنقل هو ذلك الاستلهام العميق للتراث، التراث العربي والإسلامي، تراث المنطقة القديم، وسواه، حتى إنك لتجد في كل نص من نصوصه تعالقاً ما مع مصدرٍ من مصادر التراث، وكان الشاعر في بعض لقاءاته قد صرح بذلك: «إن العودة إلى التراث هي جزء مهم من تنوير القصيدة العربية، وهذا الاستلهام للتراث يلعب دوراً مهماً في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه، ولكن يجب التنبه إلى العودة للتراث، لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافاً للمستقبل.
دنقل والفن التشكيلي

لم يلتفت دارسو دنقل إلى أثر الفن التشكيلي في شعره، وهي ظاهرة لا تلفت إليها الانتباه كما هي الحال مع التراث أو البنية الإيقاعية عند الشاعر، لكنها جديرة بالبحث، ففي قصيدة «ضد من» نجد أنفسنا أمام لوحة مرسومة بلونين فقط الأبيض والأسود، الشاعر هنا مصّور بامتياز، ولكنه يستخدم قلم الفحم أو قلم الرصاص فحسب، ويتمكن من حشد الدلالات الكامنة في وجدان الإنسان العربي وروحه حول هذين اللونين وقد يقلب دلالات اللون إلى نقيضها كما سنرى ويشحن بها نصه المكتوب في المستشفى، تقول القصيدة: «في غرفة العمليات، كان نقاب الأطباء أبيض، لون المعاطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات، لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن، قرص المنوم، أنبوبة المصل، كوب اللبن، كل هذا يشيع بقلبي الوهن، كل هذا البياض يذكرني بالكفن! فلماذا إذا مت.. يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد؟ هل لأن السواد.. هو لون النجاة من الموت، لون التيمية ضد الزمن.
والشاعر أمل دنقل أنتج ست مجموعات شعرية هي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، مقتل القمر، العهد الآتي، أقوال جديدة عن حرب البسوس، أوراق الغرفة 8 عام 1983.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن