الأولى

كرامة الأوطان

| بنت الأرض 

حين انخرطنا في نقاش جديّ من أجل تأسيس مركز أبحاث «وثيقة وطن»، أمضينا وقتاً طويلاً نناقش أسماء مختلفة، لأن الاسم مهم جداً وهو يصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية، وحين استقرّ بنا الأمر على اسم «وثيقة وطن» شعرنا بالارتياح، لأن كلمة «وطن» تحمل تلك الشحنة الوجدانية والتاريخية والمعرفية، التي نرجو أن يمثلها مركزنا هذا.
الصعوبة بدأت تظهر لنا حين بدأنا التفكير بترجمة الاسم إلى الإنكليزية، لأننا أردنا وضع المعلومات عن المركز باللغتين العربية والإنكليزية، ومع أن معظم أعضاء مجلس الأمناء، يتقنون اللغة الإنكليزية، وبعضهم متخصص بها، فقد عجزنا جميعاً عن ترجمة هذا العنوان البسيط المؤلف من كلمتين فقط إلى اللغة الإنكليزية.
الصعوبة الأهم كانت في ترجمة كلمة «وطن»، وأمضينا جلسات نناقش المقابل الدقيق والسليم لكلمة «وطن» باللغة الإنكليزية، وفشلت كل الكلمات أو حتى المصطلحات المقترحة في حمل المعنى الحقيقي لكلمة «وطن»، لأن الوطن هو التاريخ وهو الماضي وهو الحاضر، وهو كلّ ما ورثناه من حضارة وعلم وأخلاق عن الآباء والأجداد وهو ما نطمح أن نورثه لأبنائنا وأحفادنا، ولأنّ الوطن هو فرحنا وهو حزننا وكرامتنا وعزتنا وكبرياؤنا، فكيف يمكن لنا أن نجد كلمة باللغة الإنكليزية تحمل كلّ هذه الوشائج، وتوحي بها لمن يسمعها أو يقرؤها أو يستخدمها؟
بعد ساعات من النقاش اكتشفنا من خلاله أن كلمة «وطن» هي أكبر وأعمق وأشمل، حتى مما كنا نحن ندرك ونتصور، وقررنا ألا نترجم العنوان، وأن نبقي عليه كما هو باللغة العربية، ونستخدمه في أي لغة حية تماماً كما نستخدمه في العربية ألا وهو «وثيقة وطن» وفقط نكتبه بالأحرف اللاتينية ليتصدر المعلومات باللغة الإنكليزية من دون ترجمة أو تحريف.
إنّ حرباً ظالمة استنزفتنا على مدى سبع سنوات خلقت لدينا شعوراً مرهفاً، وحساسية خاصة بكلّ ما يتعلق بهوية وسلامة الوطن، لأننا أدركنا، وبعمق ويقين، خلال كلّ ما تعرضنا له من إرهاب وإجرام، أن العزّة لله وأنّ الأوطان على الأرض هي التي تصون كرامة الإنسان وتاريخه وحاضره ومستقبله، وأن الأفراد لا قيمة لهم إذا ما تمّ تجريدهم من تلك القلعة الشامخة التي هي سندهم وعنوانهم وعزتهم.
السؤال الذي شغل بالي هو: كيف يمكن للبعض أن يستبدلوا بهذه القلعة أي ثمن أو مغريات تُقدّم لهم، وكيف يمكن لهم أن يظنوا أن لها بديلاً في الأرض؟ تماماً كما اعتقدنا أنه من السهل جداً ترجمة عنوان مؤلف من كلمتين ونحن المتقنون للغتين، إلى أن استسلمنا بعد أن اقتنعنا باستحالة المهمة.
في أوقات الحرب والسلم نجد أناساً يركّزون على جمع ثروات لضمان مستقبل الأولاد والأحفاد، مهملين حقيقة بسيطة وهي أن الثروة الأهم هي صيانة الأوطان، وأنّ الضمانة الأهم للأولاد والأحفاد هي أن يرثوا وطناً عزيزاً كريماً معافى، يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ويُبقي جباههم عالية شامخة وذاكرتهم محفوظة ومكانتهم متألقة أينما حلّوا في الإقليم، أو في العالم الكبير.
إذا ما استذكرنا تاريخ كلّ من تاه رأيه، ورأى في الصفقات الخارجة عن مصلحة الأوطان ضماناً له ولأسرته، نجد أن كلّ هؤلاء انتهوا قتلاً أو ذلاً أو عاراً وفقراً، ونرى أنهم مجرّد ما انسلخوا عن قلعتهم الشامخة، وأرضهم التي احتضنتهم، سقطوا في غياهب الأثمان البخسة سواء أكانت مادية أم سياسية، أو أي ثمن خدعهم بريقه لبرهة من الزمن، ففرحوا بقصر هنا، وحساب بنك هناك، ومركز هنا، وتضخيم لأهميتهم هناك، إلى أن أيقنوا أن شمس الأوطان لا تشرق إلا على مواطني تلك الأوطان، وأنّ كل ما يتوهمون أنه لهم خارج هذه الأوطان هو ليس لهم مهما عظم شأنه، وأبهرهم بريقه لبرهة من الزمن.
علّ أبناء العالم العربي اليوم يكتشفون وربما للمرة الأولى، المعاني الحقيقة للوطن، والمواطنة، ذلك لأن الإرث الاستعماري على بلداننا قد غرس مفاهيم مغلوطة، استمرّت على مدى عقود عن تعويضات للأوطان، من مال أو جاه أو دعم سياسي يأتي من خارج حدود الوطن.
اليوم وبعد أن خاضت أوطاننا معارك صعبة على كلّ ذرة من ترابها، فتطهر هذا التراب من الرجز، وغُسَلت معه العقول والقلوب، واستفاقت الضمائر والبصائر، فلنعد للوطن مكانته الفريدة، والعزيزة في قلوب الجميع، وليثق الجميع بأن خير ما ورثناه، وما نورثه لأولادنا هو وطن عزيز كريم.
إن التضحية والشهادة في سبيل عزة الأوطان، هما منهج قائم ومستمرّ ومحمود أيضاً، ولمن يراوده الشك في أي من القيم والمفاهيم المذكورة آنفاً، ليس عليه سوى أن يستذكر التاريخ، وليتذكر عبارة مهمة جداً وهي أن «الأمور بخواتمها»، فمن ذا الذي يتذكر أي عميل مع الاستعمار الفرنسي في سورية ولبنان والجزائر؟ على حين تبقى أسماء المقاومين والمجاهدين في سبيل عزّة الأوطان، رموزاً للفخر والاعتزاز لوطنهم وأهليهم، ومن يتذكر العملاء الذين تعاونوا مع العدّو الإسرائيلي في جنوب لبنان مهما أغدق عليهم في حينه؟ على حين نحتفل كلّ عام بذكرى الشهادة والشهداء، ويبقى أحفادهم وأحفاد أحفادهم فخورين بإرثهم المشرّف المضيء.
خلاصة القول: إن الكرامة والعزّة للوطن، وكلّ قوة أو جاه أو ثروة غير مرتبطة بعزة الوطن وكرامته لا قيمة لها، لا بل قد تكون وبالاً على صاحبها في حين من الزمن، والتاريخ مملوء بالشواهد، فهل من يعتبر؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن