ثقافة وفن

ويل للصحافة من بعض أبنائها…صاحبة الجلالة… أم دكان للتجارة!!

 شمس الدين العجلاني : 

بعضهم يكتب بالدم والعرق وآخرون يكتبون وعيونهم على كرسي من ريش النعام أو زعامة مهترئة أو مبيت في فندق خمس نجوم «مثل حال البعض الآن».
بعضهم يتذبذب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ويتلون أكثر من تلون الأعراب والعربان والحرباء…
بعضهم فاق نفاقاً بعض الحكام والأمراء والملوك..
وأغلبهم كان قلمه كالمدفع، وكلمته كالرصاصة في سبيل إعلاء كلمة الحق وصون الوطن وحمايته تماماً كحماة الوطن.
صحيح هي مهنة المتاعب، وصاحبه الجلالة، والسلطة الرابعة.. ولكن في الوقت نفسه لها أحياناً وجه قبيح.. فقد تكون دكان سمسرة وتجارة! أو حانوتاً يعمل لحساب مال الخليج أكثر ما يعمل لحساب الضمير! أو مقهى على الرصيف يعمل لقضيته ولا يعمل للوطن!
يقول قائل: لقد تحول الصحفي إلى ما يشبه «الصنايعي» (العامل الحرفي)، يعمل ما يطلب منه من دون أن يفكر. وتحوّلت الصحف والمواقع إلى ما يشبه متاجر، يديرها صاحب العمل، إن «مفهوم الصحفي الصنايعي أنتج صحفيين «كم بلا كيف»، لأنه كلما كتبت أكثر زاد راتبك وتقربك من الإدارة.

الوجه القبيح للصحافة
أسماء كبيرة في عالم «صاحبة الجلالة» سقطت في مستنقع الوحل ولم تخرج منه! شيوخ للصحافة كان همهم تكديس أموال من يدفع أكثر، أو عملوا في الممنوعات والسلاح وتجارة اللحم الأبيض أكثر مما عملوا في الصحافة! ولم تزل بعض الأسماء تسقط والمال يلعب لعبته والنفوس صاحبة الضمائر الضعيفة تنحدر وتهوي..
و التاريخ لهم بالمرصاد، سجل سيرة حياتهم باللون الأبيض كما سجلها باللون الأسود، ولم تزل الذاكرة الشعبية تحمل قصصهم وحكاياتهم..
هنالك من يخطط.. هنالك من يدفع… وهنالك من يسقط… ووثائق موقع «ويكيليكس» حول الإعلام اللبناني والسياسيين اللبنانيين والتي نشرت خلال الأيام السابقة أقل ما يقال عنها إنها مرعبة ولكنها ليست جديدة، فالباحث في طيات الكتب والمجلات والصحف يقرأ أكثر رعباً مما نشرته «ويكيليكس».
هذا الفساد الذي مارسه ويمارسه شيوخ البترول الخليجي على الإعلام العربي يسعى لتخريب الفكر والعقل، ويستهدف بالدرجة الأولى شبابنا وأطفالنا ويسعى لخلق عالم جديد كما رسمه لهم أسيادهم.. هذا المال الخليجي المتدفق على الصحافة والصحفيين جعل أصحاب الصحف رجال تشريفات لأمراء النفط وأكثر من ذلك أيضاً على حد قول الصحفي والسياسي الفلسطيني الشهير ناصر الدين النشاشيبي: (المال وحده هو الذي أذل أعناق بعض الصحفيين في لبنان وأحالهم من أصحاب صحف إلى رجال تشريفات ومجالس أنس ومختبرات للأمراض الجنسية لحساب شيوخ البترول في دنيا الخليج).
لنقرأ ما يدور حولنا بتؤدة! ونضع النقاط على الحروف، لنقرأ بحيادية ومنطق، ونقول الآن نمر بنوع متطور من الاستعمار!؟ نمر بحروب على الطريقة الجديدة تتناسب مع عصر التكنولوجيا والميديا الذي نعيشه! بالأمس زمن المحتل العثماني والفرنسي شهدنا فساد الصحف والصحفيين وكان المحرك الأساس لهذا الفساد الدولة المحتلة والمستعمرة، ولكننا اليوم نعيش حالة فساد محركها المال العربي ووقودها الشعب العربي، ونهدم تاريخنا بأيدينا، ونخرب تراثنا بأيدينا، ونقتل بعضنا بعضاً بأيدينا في سبيل المال، مال البترودولار!؟

عودة إلى الوراء
بالأمس عمل المحتل على شراء ضمائر بعض الصحفيين والكتاب، وشراء الصحف والجرائد الوطنية لتسير في ركب المحتل!؟ ويروي محمد كرد علي في مذكراته، كيف حاول المستعمر الفرنسي شراء صحيفة «المقتبس» الوطنية، بعد إغلاقها من قبله، وأن قنصل فرنسا حاول محاولات يائسة مع مديرها المسؤول. ولما فشلت كل محاولاته معه لشراء صحيفته «المقتبس»، توسط بعض الأشخاص لإعادة الكرَّة والضغط على مديرها المسؤول… وأن موظفاً في وزارة الخارجية الفرنسية راجع صاحب صحيفة «المقتبس» وقال له: «إن جريدة المقتبس إذا خدمت سياستنا، فلصاحبها أن يطلب ما يحب مقابل خدمته».
قام المستعمر الفرنسي بشراء بعض الصحف والصحفيين، وكانت الحكومات زمن الانتداب تؤيد الصحافة الموالية لها وتقاوم الصحف المعارضة «الوطنية». وكان للاستعمار صحفه الموالية له في مختلف أنحاء البلاد السورية والتي دأبت على نشر نظريات الولاء للاستعمار ومحاولة خلق صداقة معه ونشر كلمات الاعتدال، والحياد والتجزئة. فكانت صحيفة العمران لصاحبها الياس قوزما وقبلان الرياشي التي صدرت عام 1920، تقف في معظم الأحيان إلى جانب سلطة الانتداب الفرنسي وخاصة أثناء الثورة السورية الكبرى على حد قول أديب خضور، وكان الأديب حبيب اسطفان يكتب في الصحف الموالية لسياسة الاستعمار الفرنسي، وأصدر هذه المقالات في كتاب سماه «وجدان لا سياسة» ثم عاد اسطفان إلى رشده ووطنيته.
وإسكندر عمون الذي أمضى حياته في كل من لبنان، ودمشق، ومصر، وعمل في جمعية «النهضة اللبنانية» وترأس «جمعية الاتحاد اللبناني» في مصر وانضم إلى حزب اللامركزية العربي الذي أُنشئ عام 1912، ومثًل هذا الحزب في المؤتمر العربي الأول الذي عقد بباريس برئاسة عبد الحميد الزهراوي، وصرّح في هذا المؤتمر أنهم على عهدهم بالدولة العثمانية حين قال: «إن الأمة العربية لا تريد الانفصال عن الدولة، ولا نصرة حزب على حزب، أو جنس على جنس».
و جمعية النهضة اللبنانية هذه التي عمل بها عمون ذكرها شمس الدين الرفاعي في كتابه تاريخ الصحافة السورية: «بعض الصحف العربية التي تتكلم بلسان فرنسا يغذيها قنصلها العام في بيروت، تساندها الجمعية السرية اللبنانية (جمعية النهضة اللبنانية)، يوجهها لفيف من الكتبة والصحفيين، وعلى رأسهم خليل زينية صاحب جريدة الثبات المؤسسة عام 1908 ورزق اللـه أرقش. وكان يحمل لواءها في باريس شكري غانم، وفي نيويورك نعوم مكرزل مؤسس جريدة (الهدى) المؤسسة عام 1898م ووجدت لها أنصاراً أقوياء في أوساط حزب اللامركزية بمصر منهم إسكندر عمون نائب رئيس هذا الحزب وكانت جريدة الأهرام في القاهرة تتكلم بلسانها.
وطبعاً الأمر لم يقتصر على المستعمر الفرنسي في شراء الصحف والصحفيين بل سبقه المحتل العثماني فكان أحمد جمال باشا السفاح قائد الجيش الرابع العثماني ووزير البحرية وحاكم سورية وبلاد الشام عام 1915، قد عمل جاهداً على إصدار الصحف العربية الناطقة باللسان العثماني وكان من أهم هذه الصحف، صحيفة «الشرق»، وكانت قد سبقتها بالصدور صحيفة «الجوائب» التي عملت وفق توجيه وسياسة المحتل العثماني.
وفي الوقت نفسه قام جمال باشا السفاح بالتطاول على الصحفيين الأحرار، وقام باعتقال وإعدام العديد منهم، فقد أعدم عبد الحميد الزهراوي (1855- 1916) الصحفي الذي ولد في حمص، وتلقى علومه الأولية فيها، وكان قد أصدر جريدة (المنبر) غير المرخصة والمناهضة لسياسة التتريك، سافر إلى الأستانة بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وساهم في الحركات المناوئة لحزب الاتحاد والترقي وأصدر هناك جريدة (الحضارة) وأغلقت جريدته ولوحق، وقبض عليه وحكم عليه مجلس (عاليه) العرفي بالإعدام.
وكذلك إعدام رفيق رزق سلوم (1891- 1916) الصحفي المولود في حمص الذي تلقى علومه الأولية في المدرسة الروسية وتابعها في الكلية الأميركية في بيروت وسافر إلى الأستانة مع الزهراوي وحرر معه في جريدة (الحضارة) وعاد إلى دمشق وحرر في صحافتها.
وكذلك إعدام الصحفي الدمشقي شكري العسلي (1868- 1916) الذي ولد في دمشق، وتلقى علومه الأولية فيها وتابع دراسته في الأستانة ونال إجازة في الحقوق، وعمل في القضاء وحرر في جريدة (المقتبس) لصاحبها محمد كرد علي التي كانت تصدر في دمشق منذ عام 1908، ثم أصدر جريدة (قبس) في دمشق في 19/3/1912 وكانت جريدة يومية سياسية اجتماعية اقتصادية عمرانية. ثم أصدرها باسم (القبس) بعد أن تعرضت للتوقيف، ثم لوحق وقبض عليه وأعدم.

عصر المال الخليجي
وبدأ في عصرنا هذا محتل جديد، مخرب جديد، عصر فاسق جديد، كل التسميات تنطبق على المال الخليجي الذي يسعى لتخريب البشر والحجر!؟ ويسخر قوته المالية لتتسلل للجسم الصحفي!؟
طفرة النفط أغرقت المنطقة بالمال والذهب، كما أغرقت بعض النفوس بالغرور والجشع والفساد وهذا ما جعل بعض رؤساء تحرير الصحف العربية يتحولون بفضل البترودولار الخليجي من: (رئيس تحرير صحيفة يومية إلى مجرد سمسار إعلامي تجاري لحساب دولة خليجية حسب قول ناصر الدين النشاشيبي).
ويتابع اسكندر الرياشي بالقول في نفس الصدد: «هؤلاء الصحفيون الذين كان بينهم من يصلي بالنهار ويفخر على العالم بتجرده ونزاهته، ومع ذلك يبيع نفسه بالليل».
ويذهب النشاشيبي أبعد من ذلك بقوله: (كان المليونير الراحل «أكرم عجة» يقوم بتسديد فواتير كبار رجال الصحافة العرب في بيروت، وباريس، وجنيف، ولندن لحساب جهات سامية «سعودية» عربية!).
الصحافة (فضائيات وصحف ومجلات) الممولة من أموال النفط جاءت متزامنة مع حالة الانحسار القومي والهجوم الطائفي والإقليمي منذ ثمانينات القرن الماضي حتى سقوط بغداد، وما تلاها من انهيار كبير في جدار الصمود العربي، وبث هذا الإعلام النفطي سمومه ضمن الخطة الموضوعة له والتي ليست ببعيدة عن سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني وبما يخدم السياسة المعادية للأمة العربية، فإن الأقلام المأجورة المريضة نفسياً، تجرأت على الظهور إلى العلن وعلى صفحات الجرائد والمجلات وشاشات الفضائيات لتنفث سمومها تحت لافتة الرأي والرأي الآخر، فأصبحت الخيانة والعمالة والطعن بالوطن رأياً يمكن محاورته والرد عليه، على الرغم من أن العرف الوطني والقومي لا يقر على محاورة الخائن لوطنه… في يوم ما قال الصحفي العربي ناصر الدين النشاشيبي: (لقد تحولت إذاعات العرب إلى كباريهات وأصبح المذيعون العرب مجرد راقصات).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن