ثقافة وفن

تقاليد الحمل والولادة.. أيام زمان كانت نساء دمشق تهتم اهتماماً بالغاً بمصير الخلاص فيعمدن إلى إلقائه في مجرى مائي

| منير كيال

لا تكاد تنقضي أيام أفراح العرس، حتى تنهال على الزوجة التلميحات بشد الهمة وإنجاب طفل يملأ البيت حبوراً، ولا يكون الزوج أقل حماسة في أن يكون له طفل يحمل اسمه، ويعينه على تحمل مشاق الحياة وأعبائها.
كانوا لا يرغبون في إنجاب البنات، وعندما تلد الحامل بنتاً ينتابهم الوجوم ويلتزمون الصمت المطبق، حتى إنهم شبهوا حال الصمت التي تسود مجموعة من الناس برهة من الزمن، بحال أناس ولدت لهم الحامل ابنة فقالوا في ذلك: «ساكتين من يللي جابت لهم بنتاً».
وهكذا فقد كان المرء إذا بشر بولادة البنت اسودّ وجهه وأظلمت دنياه، وأصابه الكدر، وكم من رجل أقسم لئن أنجبت له زوجه بنتاً ليطلقنها، وكم من زوجة تتحرق رغبة للوليد، فقد كان القلق يساورها وتتصور أن حياتها على كف عفريت إذا ولدت البنت، ومن أجل ذلك وبدافع من الحرص على الحياة الزوجية، كانت لا ترى مانعاً في استبدال هذه البنت بوليد ذكر لامرأة أخرى في حمام السوق!

فما إن تشعر الزوجة بعلامات الحمل من دوار وتقزز وفقدان للشهية حتى تدرك حماتها أنه الحمل، ويعلم الزوج أنه سيصبح أباً فلا تسعهما الفرحة، فيسهران على راحة الحامل ومداراتها وتلبية متطلبات فترة الحمل من مأكولات وفواكه ولو كان لبن العصفور سواء أكانت في أوانها أم غير أوانها، وتحرص الجارات على مهاداتها (الحامل) مما يطبخن، لأن في ذلك باعتقادهن الثواب الكبير، ذلك أن الحامل إذا شمت أو رأت شيئاً من المأكولات واشتهته ولم تأكل منه، فإن ذلك سيظهر على شكل وحمة (علامة) بجسم المولود في المكان الذي تحك فيه جسمها لحظة الاشتهاء ولا تنسى أن تتناول الحامل السفرجل والإكثار منه، لأن ذلك في اعتقادهن سيجعل عيني المولود كبيرتين، أو أن تتوحم على طفل جميل أملاً في أن يكون المولود شبيها له.
وفي الشهر الخامس من الحمل يعمد إلى خياطة ديارة المولود القادم (ملابسه) من قمصان وشلحات وأرواب وزنانير وطواق ومطربيات للف ساقي المولود بعد تحفيضه، وكذلك ما يعرف باللئية للف جسمه بعد إلباسه ملابسه (الانداءة)، ولا ننسى قطعة اللباد التي توضع بين كتفيه قبل لفه باللئية للمحافظة على استقامة قوامه.
وقبل صلاة الظهر من يوم جمعة أو يوم اثنين من الشهر السادس للحمل، يعمدن إلى صر ثياب التنزيلة وهي الثياب التي يحتاجها الوليد ساعة ولادته، في بقجة خاصة، وذلك إضافة إلى علبة تحوي ورق الآس لرشه تحت إبطي المولود وعلى حالبه ومفاصله قبل أن تدهن بمنقوع حبات النانرج بزيت الزيتون.
كما تحتوي تلك الصرة على مسحوق الكمون لرشه على يافوخ الوليد، وكذلك كمية من الكحل الناعم في مكحلة لتكحيل عينيه، وبعضاً من التراب الأحمر (البيلونة) يبل بالماء لدهن حالبي الطفل، كما يضعن في تلك البقجة خيطاً ومقصاً لربط صرّة الوليد بعد قصها، ومن ثم بعض الملح لرشه على الصرة، فإذا كان ذلك فإنهن ينتظرن أول داخل عليهن من الأطفال فإذا كان ذكراً توسمن أن يكون الوليد ذكراً.
وعندما تدخل الحامل شهرها التاسع تنصح بكثرة الحركة والمشي لتسهيل الولادة عليها، فإذا حان المخاض واشتد الطلق (المخاض) تستدعى والدة الحامل وجاراتها للوقوف معها، كما تستدعى الداية (القابلة) التي تسارع إلى إرسال كرسي الولادة، وحال وصول الداية تتفقد وضع الحامل ووضع بقجة التنزيلة المذكورة، فإذا كان وضع الحامل جاداً، فإن الداية تسقي الحامل من مغلي الكمون، وتجلسها على المكان المقور من كرسي الولادة، وتطلب تسخين الماء لتحميم الوليد لحظة ولادته، وتجلس إحداهن خلف الولّادة وتشدها إليها وهي على كرسي الولادة، كما يشد ساقا هذه الولادة إلى قائمتي كرسي الولادة الأماميتين بمساعدة اثنتين من الحاضرات، ويوضع تحت كرسي الولادة إناء لاستيعاب ماء رأس الوليد عندما تطق، وتجلس الداية في مقابل الولّادة فإذا حمي المخاض، فإن الحاضرات يشجعن الولّادة ويدعون لها ويحدثنها على الصبر والتحمل، خوفاً على الوليد من أن يصاب بأي مكروه، فهذه تقول لها صلي على النبي، وتلك تطلب إليها أن تكيس وتعين ولدها على النزول، فإذ طق ماء الرأس استبشرن بالمولود فتستلقيه الداية، فتغسله وتليفه بالماء الفاتر وترفعه من قدميه إلى أعلى وتضربه ضربات خفيفة على مقعدته حتى يصيح، ثم تقطع الداية للوليد حبل السرة وترش عليها قليلاً من الملح وتربطها.
ولا يشغل بال الحضور في تلك اللحظة إلا التعرف إلى جنس المولود، فلا تقدر فرحتهن عندما تقول الداية: اللهم صل على سيدنا محمد، بمعنى أن المولود ذكر، فيعمدن إلى الابتهاج والزغردة، وتسارع إحداهن إلى إعلام الأب بذلك للحصول على البشارة.
ويؤخذ المولود إلى والده فيؤذن له في أذنه اليمنى ويتلو تكبيرات إقامة الصلاة في أذنه اليسرى ويقبله، ويدخل إلى زوجه فيهنئها ويقدم للداية علاوة على أجرها صرة تضم لوح صابون وغطاء للصلاة وكمية من السكاكر.
وإذا كانت المولودة بنتاً تقول الداية: اللهم ارض عن سيدتنا فاطمة، الحمد لله يللي قامت بالسلامة، عطية من الله، ثم تعمد الداية إلى إنزال ما يعرف بالخلاص (المشيمة) من المطلقة، ليصار إلى نقلها إلى فراشها فتتعشى من مرق اللحم كي تشد عروقها.
وكانت نساء دمشق تهتم اهتماماً بالغاً بمصير الخلاص، فيعمدن إلى إلقائه في مجرى مائي، لأن في اعتقادهن، إذا صدف ووقع الخلاص بيد امرأة عاقر، وحملت منه قطعة في مهبلها، فإن ذلك سيجعل صاحبة الخلاص عاقراً، والتي حملت منه ولّادة، أما سرّة الوليد فتأخذها إحداهن لإلقائها في سوق الصاغة أملاً في أن يكون الوليد من أبناء السعادة وفي ظهيرة اليوم التالي للولادة، أو ضحى ذلك اليوم، تدعى الداية والأقارب ومن حضرن الولادة إلى سفرة (مائدة) الخلاص وتكون عامرة بأنواع المأكولات واللحوم وحواضر البيت من جبن وزيتون ومربايات أعدت لهذه المناسبة وكما في الأيام التالية للولادة يقدمون إلى المباركات مغلي الكراوية إذا كانت الولادة في أيام البرد أو الشتاء، أما الداية فإنها كانت تتردد على النفساء على مدى أسبوع فتغسل المولود وتدهن سرته وشرجه بزيت النانرج وترش مسحوق الآس على حالبه وغالباً ما تكون المباركة في اليوم الخامس من الولادة وقد جرى العرف على إطلاق اسم محمد على المولود الذكر في الأيام الأولى من ولادته ثم يضاف إلى ذلك الاسم اسم جدّه لأبيه على الأغلب، وإذا كان المولود بنتاً فإنهم يطلقون عليها اسم فاطمة ابنة النبي ثم تأخذ اسم جدتها على الأرجح، وتستمر الأفراح حتى يوم حمام (الفسخ) للنفساء، ويكون هذا الحمام في يوم وتر بين اليوم السابع للولادة واليوم الحادي والعشرين من الولادة.
ويعتقدن أن استحمام النفساء في أحد تلك الأيام يحول حليبها من صمغة (غير كامل التكون) إلى حليب كامل التكوين، كما يعتقدن أن أقل هزة أو رعبة للنفساء قد تتسبب في نضوب (هروب) حليبها من صدرها.
وفي هذا الحمام يُدهن جسم النفساء بما يعرف بالشداد وهو مزيج كثيف القوام يتكون من الزنجبيل والدبس أو العسل وحبة البركة، ثم تجلس على ممر بيت النار أو على مصطبة بيت النار حتى تعرق وتسقى مرق اللحم أو الحليب المخلوط بالبيض النيء ثم تحمم وتخرج إلى الوسطاني في جو احتفالي، وقد جرت العادة أن يصاحب حمام الفسخ هذا مائدة على غرار مائدة حمام العرس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن