ثقافة وفن

يوم كنا وكانوا… دمشق… القاهرة

| إسماعيل مروة

يعنّ لذاتي منذ أمدٍ بعيد أن أكتب عن دمشق.. القاهرة، هذا الطريق الواصل بين هدب وهدب، بين عين وعين، ولكن لا أريده حديثاً ماضوياً عن تعاون الحاضرتين العظميين لتحرير بيت المقدس، فالأمس مضى وانتهى ولا يجدي الحديث فيه بشيء.. ولا أريده حديث ذكريات، لأن مثل هذا الحديث يتركز حول الذات، وإن كان مثل هذا الحديث مفيداً، إلا أن الأنا هي الأبرز، ولكنني أريد الحديث عن نغم يتردد في روح كل سوري عندما تذكر القاهرة أو مصر، وعن لحن عذب يعيش داخل كل مصري عند ما يأتي الحديث عن الشام ودمشق وسورية.. هناك رابط يشبه الحبل السري بين دمشق والقاهرة ولن يقدر أحد أي أحد على فصمه، فما بين رحم ورحم يصل، وما بين روح وروح يتقلب… وبعيداً عن الأحاديث الإنشائية والتاريخية، فإن الكتب تذكر إنسانياً وبشرياً أن عدداً غير قليل من المصريين وجدوا هجرتهم تحت ضغط احتلال أو ظلم أو ثأر إلى سورية، وهناك عائلات دمشقية وسورية كثيرة تعود بجذورها إلى مصر، وإن كانت لا تحمل كنية المصري أو الإسكندراني أو الدمياطي أو ما شابه، ولو وقفنا عند من يحمل اسم البلد أو المدينة فسنجد عائلات كثيرة مهاجرة من مصر، وهذه العائلات لم تكن هجرتها مؤقتة، بل استعذب هؤلاء سورية ودمشق واتخذوها مسكناً وفاخروا بالشام كما القاهرة، ومنذ مدة رحل العلامة الأستاذ الدكتور الآثاري عفيف بهنسي، وفي سلسلة أسرته أنه منحدر من أسرة مهاجرة من بهنس في مصر… والأسماء كثيرة، والسحنة واللون والعمل يؤكد صدق هذه السلسلة من النسب التي تعود بهم إلى قاهرة المعز، ناهيك عن وجود أسر كثيرة تحمل الكنية التي تعيدها إلى مصر، وإن سألت قال لك: شامي، فتقول والكنية؟ يقول لك: واحد.
أما مصر فقد استوعبت السوريين والشوام والحلبيين كما لم تفعل ذلك بلد، فكل هجرات السوريين كانت إلى مصر ولم تكن لسواها، ولم يقصد السوريون الخليج وغيره إلا بعد الطفرة الاقتصادية، ولفترات محددة لكسب الرزق، أما مصر فالأمر مختلف، فالمصريون يذكرون أن أهل دمياط في مصر هم من الشوام، وهم من جاء بصناعة الخشب والموزاييك إلى مصر، ويقولون: الدمايطة الشوام… والمصريون بإنصافهم تحدثوا عن الشوام المهاجرين ودورهم في الثقافة والنشر والإعلام، فهذا رشيد رضا قصد مصر، وهذا عبد الرحمن الكواكبي لم يجد مستراح فكره، ومجال إبداعه في طبائع الاستبداد إلا في مصر، وهذه أسرة الخانجي التي حملت الاسم الدال على تأثر من الجوار باللغة التركية في حلب تهاجر إلى مصر تحت ظروف لتؤسس لأهم وأعرق دور النشر العربية، والسلسلة تطول، ولا تقف عند البارعين من الصحفيين والناشرين.
وخير الدين الزركلي شاعر الشام الكبير، حين حكم الفرنسيون بإعدام بلده سورية، انتفض ورفض وكتب، فحكم عليه المحتل بالإعدام مرتين، فاختار في تلك الفترة أن يقصد منفاه الاختياري مصر وفيها ناجى الشام وسورية، وأبدع وصنف، وحين قضى رفاقه ألا يعود إلى شامه بعد الجلاء تجول في البلدان العربية وعمل ما بين الجزيرة العربية والمغرب وبيروت، ولكنه حين أراد أن يرتاح، وأن يشمّ أرض الشام عاد إلى القاهرة ليودع الحياة عام ستة وسبعين وتسعمئة وألف ويدفن في القاهرة، عاش غريباً منفياً، ولكنه انزرع في أرض القاهرة راقداً رقدته الأبدية مطمئناً إلى حبها وترابها الذي أعطاه الأمان حين بخلت الأرض عليه… وإن أردت أن أتتبع الشخصيات والتفاصيل، فإن الأمر يطول، وطويل جداً، وفي هذه الوقفات سأقف عند شخصيات لقيتها هنا ولقيتها هناك، فكانت هنا أكثر التصاقاً، وهناك أكثر شوقاً للشام… وحدها مصر استوعبت مدلل الشام نزار وأصدرت له بحب: طفولة نهد وسامبا، وحدها بحبها للشام أجبرت المتشدد أن يشيد به ويكتب عنه ويتحايل على اللفظ، لأن شام المتشربة في القافية النزارية أغرته، وما مثل المصري في مواجهة القافية الشامية، ولم تجد هذه القافية حضناً حنوناً إلا بعد أن اكتمل ما بين الشام والقاهرة… ومن يقرأ سيرة نزار يتعرف إلى مكانتها في نفسه وروحه وأدبه!
غريبة هذه العلاقة التي تربط مشيمة مدينتين، والحبل السري بين شعبين لا يمكن أن يتم الفصل بينهما مهما اختلفت الآراء أو المصالح… هذه العلاقة السحرية والسرية هي التي دفعتني بعد عشرين عاماً على لقائي الأول بها وعلى أرضها أن أعود إليها، لأحاور إنسانها، وأدخل متاحفها، وأناشد مومياواتها، وأرقب مسارحها… قبل عشرين عاماً اكتشفت السر وعجزت عن التفسير، وفهمت العلاقة الأزلية، ولم أقدر على تحديد بداية ونهاية، فهنا سليمان الحلبي وهناك باحث من كتاب على سور الأزبكية… في ذلك اليوم حصل الانبهار التام بالقاهرة وإنسانها وما فيها من بساطة تبلغ قمة التعقيد، ومن تعقيد لا يراه عقدة سوى ذلك العاجز عن القراءة والفهم… ومن شيبارد إلى ميدان سليمان باشا، عجز الفرنجة، وضاقت روح الباشاوات عن فعل شيء، فكانا لمصر، وانتصب رائد الاقتصاد المصري طلعت حرب يرقب بنك مصر، والنيل يردد معزوفة عبد الوهاب الخالدة باحثاً عن شآمي وشآمية يهبطان على رصيف فوق النيل العظيم، تصل إلى سمعهما موسيقا منبعثة من عوامة تجوب النيل جيئة وذهاباً لتقول لك: هي الحياة..
يشدك من يدك صديقك ليقول لك: هذا يقدم طعامه على الطريقة الشامية، إنه شامي، فتدلف إلى المكان، وترتفع جبهة شام وهي تقبض على يدك لتقول لك: أنا معك هنا، حيثما توجهت فأنا معك.
ليس الحديث عاطفياً، وإنما هو معلومات متراكمة، فحين كانت الأمور طبيعية، كانت القاهرة قبلة الشاميين، وكانت الشام مهوى أفئدة المصريين، فما الذي تغير؟ يقول كثيرون إن الوقت الحاضر اختلف كثيراً بين المصريين والسوريين، ولكن الحقيقة تؤكد غير ذلك، ففي أحلك الظروف، وفي أقسى الأوقات لم يستطع أحد أن يدفع العبوس في وجه سوري في مقابلة المصري، وكذلك لم يستطع أن يقطب أي مصري، ولم تنحدر هذه العلاقة المشيمية إلا عندما تولى الحكم- ولو لمدة محددة- الإخوان المسلمون، الذين حاولوا فصم هذه العرا تحت ذرائع أيديولوجية، لكنهم سرعان ما رحلوا، بقي الحب الأبدي بين حاضرتي الدنيا منذ الأزل، ولم يبق إلا أن تعود الدوائر الرسمية والإجراءات لمتابعة الإحساس الوطني البسيط لدى المواطن العادي الذي لا يعرف كذباً، ولا يتبع سوى الإحساس الصادق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن