قضايا وآراء

خطاب الرئيس الأسد.. درسٌ في الشفافية وإبداعٌ في صناعة الأمل

فرنسا – فراس عزيز ديب : 

كان الأمر أكبرَ من مجرد مفاجأةٍ صباحيةٍ تلقاها المواطن السوري فور الإعلان عن خطاب للسيد الرئيس بشار الأسد صباح الأمس في لقائه رؤساء وأعضاء المنظمات الشعبية والنقابات المهنية وغرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة. مما لاشك فيه أن المواطن السوري انتظر كثيراً هذا الخطاب، وتحديداً أنه جاء بعد عامٍ تقريباً من خطابه الأخير، إضافة لأن هذا الخطاب جاء في وقتٍ حساسٍ تتدحرج فيه كرات النار في كل الاتجاهات. بدا الخطاب وكأنه رسائلٌ للداخل أكثر منها للخارج، كيف لا والصمود في الداخل هو انعكاسٌ للانتصار على الخارج.
نجح السيد الرئيس بتعرية المجتمع الدولي مجدداً، وكشف مراوغاته في كذبة «الحرب على الإرهاب». وضع المجتمع الدولي أمام التزاماته، لأنه يعتمد مبدأ ازدواجية المعايير في «الحرب على الإرهاب»، باعتبار أن ازدواجية المعايير تلك لم تولد من العدم، بل هذه الازدواجية هي انعكاسٌ طبيعي لتاريخ هذه الدول الاستعماري، فكيف لمن امتلأ تاريخه بالقتل والإجرام أن يسعى اليوم لمكافحة الإرهاب، أو الحديث عن الحرص على دماء الأبرياء.
من هذا المنطلق، بدا واضحاً من كلام السيد الرئيس أن أولوية مكافحة الإرهاب سابقة لكل الحلول المطروحة، مع التأكيد أن القيادة السورية كانت ولا تزال منفتحةٌ على كل المبادرات، كيف لا والسبب الأساسي لهذا الانفتاح ينطلق من الحرص على الدم السوري وقطع الطريق على كل المشككين برغبة القيادة السورية في إنجاز الحلول. لكن المشكلة كما تبدو أن «الراعي» الذي يعرقل الحلول، يمسك بذراعه الأولى ورقة الإرهاب وبذراعه الثانية ورقة الحل السياسي، فيتم تحريكهما حسب متطلبات الوضع. بمعنى آخر، أراد السيد الرئيس أن يقول بأنه لافرق بين الإرهابي الذي يقتل وبين الإرهابي الذي يغطي هذا القتل بالسياسة، فكلاهما يمتلك الهدف ذاته، ألا وهو الدفع بنا لنقدم له الوطن ليُرضي طموحاته وطموحات مشغليه بوضع اليد على سورية، فالحل السوري ـ السوري بالنسبة لهم مرفوضٌ لأنه يعني انتصار إرادة الشعب. هذا الأمر لن يحدث، وبكل تأكيد لن يحدث «ولا حتى في أحلامهم»، تحديداً أن الشعب السوري لم يصمد ليتنازل، ولم يضح ليكون عبداً، كما أنه لم يعط لأحد أيّاً كانَ صك توكيل ليتنازل له عن حقوقه، فالشعب هو الوحيد القادر على أن يتنازل عن حقوقه.
كذلك الأمر، كان الحديث عن الشق الميداني و«للمرة الأولى» بشفافيةٍ مطلقةٍ. بدا واضحاً من كلام السيد الرئيس أنه لا يتابع فقط أدق التفاصيل المرتبطة بتوجسات المواطنين من الوضع الميداني؛ لكنه يعرف مسبقاً أن أي شرح سيقدمه سيكون له نهاية تستند لسؤال أساسي «شو الوضع»؟!
لم يجمِّل السيد الرئيس الصورة رغم قناعته التامة بأن هذه الواقعية والصراحة ستكون سلاحاً بيد الأعداء يُسوقون له إعلاميا كما يشاؤون، لكن التصارح مع الشعب أهم مما يفكر به العدو، فكيف إن حققنا أمرين أساسيين: التصارح مع الشعب ومغالطة العدو، تحديداً أن هذا العدو لا يحتاج لكلام الأسد ليبني عليه أكاذيبه لأنه في الأساس يختلق أكاذيب ويسوقها، فما الجديد؟
وضع السيد الرئيس الشعب أمام مسؤولياته بأن الدفاع عن الوطن ليس مهمة الجيش فحسب، بل هي مهمة كل من ينتمي لهذا الوطن، فالوطن لمن يدافع عنه وليس لمن يتهرب من هذا الواجب. أما ما يحدث من وقائع فشرحها السيد الرئيس بطريقةٍ بدت مفهومة للجميع، إن كان لجهةٍ تنطلق من أولوية الحفاظ على حياة الجنود ولا تنتهي بأولوية أهمية المنطقة التي يتم الدفاع عنها، مع العلم أن أهمية المنطقة من الناحية العسكرية قد لا يحددها لا حجمها الجغرافي ولا «شهرتها الإعلامية». بدا واضحاً أن الشعب السوري كان بحاجةٍ فعليةٍ لهذا الشرح «الشفاف»، تحديداً أنه يأتي من رجل لا تربطه علاقته بمواطنيه فقط من باب رئيس وشعب، لكنه بالنهاية قائد والجميع يضع ثقته بخياراته أولاً وبمصداقيته ثانياً، وعليه فإن شد العصب المعنوي في هذه الأيام المرتبط بما تم من انكسارات أو انتصارات على أرض الميدان ستكون زاداً للأيام القادمة التي ربما تكون أشد وطأة في المعارك وأقل حمأة في السياسة، وبكل الأحوال فإن الكلام واضح؛ ما لم يأخذوه على الأرض فلن يأخذوه في السياسة.
حتى معركة المصطلحات التي يتم تداولها إعلاميا هنا وهناك، كان لها حصة في خطاب السيد الرئيس، كيف لا والحرب الإعلامية لايبدو أنها تقل خطورةً عن الحرب بالسلاح أو بالأدوات كالتطرف. أراد الرئيس الأسد أن يُحدِث ما يمكن تسميته «الصدمة» في ذهن من وهنت عزيمته وثقته بأن سورية أكبر من مجرد وطن، أو أن سورية بلد «قابل للتقسيم». بواقعيةٍ تامةٍ، طرح الأسد تساؤلاته على من في قلبه شكٌ، لماذا يهرب المواطنون من مناطق الإرهابيين باتجاه «المناطق الآمنة». هذه الرسالة قد تبدو متعددة الاتجاهات، ليست فقط لمن في قلبه شك، هي أيضاً موجهةٌ للمواطن المنتمي أساساً للمناطق الآمنة والذي يظن أن وجود أعداد هائلة من المواطنين السوريين الهاربين من الإرهاب في مناطقهم هي حجر عثرة أمام خدماته، كذلك لكل أصحاب المشاريع الانفصالية بأن التقسيم لا يحدث إن كان الشعب لا يريد ذلك ومن يظن أن من شكّل لجاناً شعبية في بعض المناطق للقتال إلى جانب الجيش العربي السوري سيسمح يوماً بالتقسيم فأحلامهم تشبه أحلام تلك الأدوات السياسية المُسماة معارضة التي تريد السيطرة على الوطن لتؤجره لأعدائه. لقد نبّه السيد الرئيس للعبة المصطلحات، وتحديداً أن هذا الأمر يتم استخدامه من أناسٍ هم من الخط المقاوم، لكنهم للأسف دائماً ما يمزجون بين الحالة اللبنانية والحالة السورية، وعليه لا يوجد ولن يوجد في سورية مناطق تماس أو تقسيم، ولنتذكر دائماً أن «حصة كل سوري… هي سورية بالكامل».

هنا يبقى السؤال الأساسي: هل هناك أمل؟!
لا يمكن لقائدٍ يقرأ الصمود في عيون الشعب أن لا يستمد الأمل من ابتسامة مقاتلٍ ذهب ليدافع وينتصر، ولم يذهب ليقاتل لأنه يهوى القتال. الأمل في كل المجالات موجودٌ، كيف لا والأسد هنا يتحدث عما يمكن تسميته المجالات التي يمتلك فيها القدرة على إعطاء النتيجة، وحده الشق السياسي لا يستطيع الأسد أن يمنح فيه الأمل للشعب، وهو محقٌ في ذلك، ببساطةٍ لأنه يعلم أن الحل السياسي يتحقق عندما يقرر ذاك «الراعي» الذي يمتلك تلك الأدوات المُسماة معارضةٍ خارجيةٍ رميها في «سلة المهملات». عندها فقط سيتحقق الحل السياسي مع من لا يرضى لنفسه أن يكون عبداً ولا تابعاً ولا حتى منبوذاً من الشعب السوري الذي رمى ومنذ زمنٍ طويلٍ تلك الأدوات في سلة المهملات.
كلُّ هذا الأمل اختصره الأسد بعبارةٍ أساسيةٍ «الهزيمة والانهزام غير موجودة في قواميس الجيش العربي السوري»، كيف لا وهذا الجيش امتزجت دماؤه بدماء المقاومة اللبنانية التي كانت ولا تزال أشرف مقاومة وطنيّة عرفها التاريخ، ومدعوم بكل ما تمتلكه «الشقيقة إيران» من خبرات، وما تعلمته كل من الصين وروسيا من احترام للشرعية الدولية.
إنّه أكبر من مجرد خطابٍ، إنه درسٌ في الشفافية والوضوح البعيد عن التجميل والمغالاة، إنها رسائلٌ لمن يريد أن يفهم بأن النصر… قرار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن