قضايا وآراء

سقوط الوريقات الثلاث

|عبد المنعم علي عيسى

تعمد الولايات المتحدة إلى إنشاء «يونسكوم سورية»، شبيهة بتلك التي أنشأتها في العراق العام 2002 فكانت المطية المستخدمة لغزوه وإسقاط نظامه في نيسان 2003، لكن يبدو أن هذا المسعى محكوم بالفشل تحت أية صيغه جاء عليها، ولطالما أكدت موسكو على مر مراحل الأزمة السورية استعدادها لإقفال تلك الثغرة التي تدرك جيداً إلى أين سوف تفضي، وما بين كيميائي الغوطة آب 2013 وكيميائي خان شيخون نيسان الماضي، هناك الكثير من الجهود المبذولة، وربما ما يظهر منها إلى العلن هو أقل بكثير من الذي يجري في الخفاء، ما يؤكد أن موسكو تنظر إلى ذلك المسعى على أنه «تسونامي» أميركي يريد أن يعصف بكل ما أنجزته في سورية على مدى 26 شهراً كانت منخرطة في أزمتها بشكل مباشر.
استخدمت موسكو يومي الجمعة والسبت الماضيين حق الفيتو لمرتين متتاليتين في خلال 24 ساعة لمنع صدور قرار ينتج «اليونسكوم السورية»، ومن الواضح أن طرح مشروعين لا يختلفان في شيء عن بعضهما في خلال يوم واحد، هو أمر يهدف بالدرجة الأولى إلى إحراج موسكو وزيادة الضغوط عليها، ففي ظل النظام الدولي الراهن لا شيء مجانياً بمعنى أن هناك ثمة رصيد للدول التي تمتلك ذلك الحق وعليها أن تتقن استخدامه.
تعاطت موسكو منذ استصدار القرار1973 في آذار 2011 الذي أدى إلى استباحة الناتو لليبيا، مع القرارات الشبيهة بمبدأ الأخذ بالنوايا قبيل أن نضطر للمضي إلى تبيان الحقائق والوقائع، ولطالما أثبتت تلك الاستراتيجية نجاعتها في العلاقة مع واشنطن على مدار سنوات «الربيع العربي» السبع، إذ ليس عادياً أن تضرب هذي الأخيرة عرض الحائط بالعديد من المعطيات وتصر على أن التقرير الصادر عن لجنة التحقيق الدولية كافٍ لاستصدار قرار يمكن الاستخبارات الأميركية والغربية من أن تجوب سورية من أقصاها إلى أقصاها وتطرق أبواباً لم تستطع حتى الآن طرقها.
تقول المعطيات المؤكدة إن أعضاء لجنة التحقيق بينما كانوا في الطريق إلى مطار الشعيرات صدر تقرير لجنتهم في نيويورك، كما لم تطأ أقدام أي منهم المكان المستهدف في خان شيخون، ولم يقوموا برفع أية عينة منه، على حين أن اللجنة قد اعتمدت في الحصول على تلك العينات على جماعات «الخوذات البيض» ذائعة الصيت، وكذا على العديد من عناصر الفصائل المسلحة قاموا بإرسالها بالبريد، وعلى تقارير أو شهادات صادرة عن مشافي غازي عينتاب التركية ذائعة الصيت هي الأخرى، ومن الواضح أن تلك المعطيات ليست كافية لنسف التقرير فحسب، وإنما لنسف اللجنة برمتها ونزع المهنية عنها.
يقول الرئيس السابق لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية جوزيه البستاني في حديث له مع جريدة «الأخبار» اللبنانية نشرته مؤخرا: إن واشنطن كانت قد استطاعت إبان تهيئة المناخات الدولية لغزو العراق، أن تبسط سيطرتها على مفاصل القرار في المنظمة عبر إعادة هيكلتها من جديد، ثم يضيف: إن هذا الأمر كان قد استدعى استبعاده عن رئاستها في العام 2002 مما مهد الطريق أمام استعادة نظام العقود الذي يتيح الاعتماد على خبراء يجري تمويلهم من بلدانهم، الأمر الذي يعني إنتاج قرارات تعبر عن مواقف حكوماتهم ولا علاقة لها بالمهنية، وقد اختير لقيادة السفينة السويدي هانز بليكس الذي جيء به ليلبي المعايير والمقاسات الأميركية المطلوبة.
في الغضون يبدو أن سقوط الوريقة الكيميائية يجري بالتزامن مع سقوط الوريقة التركية، فمن كان يتوقع أن الرئيس التركي نفسه هو من سيعلن أن لا وجود لإسلام معتدل حتى وأن كأن ذلك قد جاء في معرض رده على ولي العهد السعودي الذي أعلن عن عودة بلاده إلى الإسلام الوسطي والمعتدل في حديث كانت قد أجرته معه «الغارديان» البريطانية الشهر الماضي، ومن المؤكد اليوم أن ثمة توافقاً إقليمياً ودولياً على استبعاد «الإخوان المسلمين» من أي دور في التسوية السورية المرتقبة، وهو ما يمثل لوحده نسفاً تاماً للمشروع التركي وإيذاناً ببدء الخريف التركي في سورية مهما بدت التحركات التركية وكأنها تريد أن تقول العكس، فهذي الأخيرة لا أفق سياسياً لها لأنها لا تمتلك سنداً كافياً قادراً على تحويلها إلى مكاسب دائمة، وربما ولكي نفهم أهمية وتجذّر الوريقة التركية في المشروع الغربي في المنطقة، لا بأس أن نعود قليلاً إلى الوراء عندما كان الرهان قوياً على أن تشكل أنقرة «حصان طروادة» لاختراق المنطقة العربية، ففي آذار من العام 2005 جاء إلى أنقرة صاحب نظرية صراع الحضارات المفكر صموئيل هنتغتون وألقى محاضرة قال فيها مخاطبا الأتراك: يحب أن تنزعوا من أذهانكم فكرة انضمامكم إلى الاتحاد الأوروبي وأن تكفوا عن الطلب من أميركا للضغط على أوروبا لكي تنالوا عضوية اتحادها، ثم أضاف: يجب عليكم أن تتجهوا شرقاً على خطى أجدادكم الذين رسخوا نفوذهم عبر احتلالهم للبلدان العربية، كان من بين الحضور وزير الخارجية التركي السابق المنظر أحمد داوود أوغلو الذي أخذ على عاتقه مهمة إسقاط أفكار هنتغتون على الواقعين العربي والتركي، ولم يطل الأمر حتى تكشف أن المشروع يحمل بذرة فنائه بداخله، وفي حمأة هذا المشروع رفعت واشنطن مظلتها عنه في أعقاب طلاقها البائن مع «الإخوان المسلمين» أثر اغتيال السفير الأميركي في بنغازي في الذكرى الحادية عشرة لأحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك.
تبقى هناك الوريقة الوهابية التي تبدو وكأنها الآن تعيش حالة إرهاص إيديولوجي وسياسي كبيرة تتمظهر بحالة إرباك تبدو وكأنها تفوق بكثير تراكم الأزمات وتجرع هزيمة الفشل، وربما كأن خير من رصدها وزير الخارجية الألماني الذي أعلن في 16 من الجاري: أن روح المغامرة التي تعيشها السعودية منذ تسعة أشهر هي غير مقبولة ولا يمكن السكوت عنها، وذاك أمر يصيب الدور الإقليمي السعودي في مقتل وإذا ما كانت واشنطن ترقب ذلك بصمت تفرضه «اللقمة الكبيرة» التي ابتلعتها في أيار الماضي ولم يجر هضمها بعد، فإن الموقف الألماني يمثل حالة غربية تستكمل شروطها تجاه السياسات التي تعتمدها الرياض منذ عامين، فالغرب الذي يرى أن ابن سلمان الذي نجح بعض الشيء داخلياً في تثبيت سلطاته، إلا أنه يبدو في تعاطيه مع الخارج أشبه بفيل جيء به لتوه من الغابات ومن ثم أدخل إلى قاعة مملوءة بالخزف والتحف والكريستال، فهو يريد التصدي للنفوذ الإيراني والتركي في آن، ويريد «سعودة» قطر ولبنان، وإملاء ما يريده في سورية واليمن والعراق، وكل ذلك يمثل حمولات سوف تثقل عاهل القرار الأميركي الداعم له، فواشنطن لن تستطيع الاستمرار في تقديم ذلك الدعم له إذا ما فقد مبررات وجوده الداخلية والإقليمية وربما كانت حالة التقارب الحثيثة مع تل أبيب فيها شيء ليس بقليل من تلك الحسابات، وعليه فإن التوصيف الأنسب لابن سلمان على خلفية اتضاح سياساته مؤخراً، هو أنه صراف عمله من النوع الرديء فما يربحه في السوق المالية الداخلية يخسره مضاعفاً أثناء قيامه بتحويل رأس المال إلى عملات أجنبية في الخارج.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن