ثقافة وفن

الرسم لا يوجد فيه أي نوع من الظلم للطرف الآخر … مخول لـ«الوطن»: المشروع الثقافي يجب أن يتدخل فيه معظم الوزارات وليس قاصراً على التربية

| سوسن صيداوي

فلسفة البساطة، طفولة وطيبة، البساطة ممزوجة بعمق الفكر، والروح تهوى الجمال، وترفض الفقر، على الرغم من كل حيل الأخير وأساليبه الاضطهادية. والمعني هو رجل كان قد عزم على مصالحة فقره، بل اختاره صديقا، وطوعه كي يرى عبره ويستلذ من خلاله حلو الحياة. إنه رجل صاحب فكر منطلق، يعشق الفلسفة واتخذ منها كي تكون مرآة لمكنوناته، باعتبارها تستحق التفكير وتستهوي الغموض. اختار الفن محطة مستمرة في حياته ليكون عينا وقلبا ولوحة، وفي النهاية حروفا صيغت بكلمات كتاب. إنه الفنان التشكيلي موفق مخول، الذي بعد صمت دام خمس سنوات عاد إلى متابعيه عبر معرض فني أقيم في صالة ألف نون في دمشق، محتوياً على سبعة عشر عملا جديدا بتقنية الاكريليك وبقياسات متنوعة وبأسلوب تجريدي، ورافق المعرض كما ذكرنا كتاب حمل عنوان المعرض «مخوليات»، الكتاب جمع خواطر كان قد نشرها الفنان عبر صفحته على الفيسبوك. صحيفة «الوطن» التقت الفنان وناقشته في نقاط تتعلق بالفن والتربية وغيرها الكثير… إليكم الحوار..

لماذا اخترت الرسم وتابعت الدراسة في كلية الفنون الجميلة؟
ببساطة لا يتعلق الأمر بموهبة، هذا ونحن لا نعيش في إيطاليا ولا في أوروبا كي نتابع الأعمال الفنية واللوحات والمتاحف، ولكن برأيي هناك الكثير من الأمور التي تؤثر في الإنسان خلال نشأته، وعلى صعيد شخصي أنا تأثرت بالفقر، وكل ما ينتج عنه من اضطهاد إنساني. في الحقيقة عندما يقوم المرء باستغلال فقره يخرج منه كصديق، بل يحوّل كل ما عانى خلاله في حياته إلى جمال وسلام، وفي النهاية يخرج المرء منه مرتاحا من كل ضغوط الحياة، وغير مسؤول عن أي ظلم قد يصادفه. إذاً بعد أن صادقت فقري، الأخير دفعني كي أشكّل نفسي وأقدم شيئا عبر السلام والجمال، فالفن- وخاصة الرسم- لا يوجد فيه أي نوع من الظلم للطرف الآخر، وحالتي الإنسانية ناسبت هذا الاتجاه الفني.

تخرجت في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير في عام 1982، من ذلك الوقت وحتى اليوم كيف ترى مسيرة الحركة التشكيلية؟
الحركة التشكيلية في سورية تتطور ولكن ببطء، والمشكلة أن الفن محصور بمن لديه المال، فالفنان وأعماله أسيران لأموال الغني، وبالمقابل الفن التشكيلي يجب أن يكون مشروعا وطنيا، وأن تعمل كل جهات الدولة ومؤسساتها ضمن إستراتيجية وطنية، وخاصة أننا مجتمعات تعاني التخلف، بالمقارنة مع حياة الأوروبي الملأى بالفن سواء في الشوارع أم الأبنية، وبالطبع حياته مفعمة بالسلام- بعكس ما تعانيه المنطقة لدينا- وتاريخه كله فن، فهم ليسوا بحاجة لترويض الطفل وتأهيله فنيا، بعكس الطفل السوري، الذي يحتاج إلى عمل وجهد كبيرين، كي يتم تهذيب مشاكله النفسية والتاريخية والعائلية، والعمل على عدم عدائه للآخر، وتغيير نظرته للتخلف الذي وللأسف الشديد يعتبره تراثا. إذا الفن التشكيلي حالة وطنية إستراتيجية، يُفترض أن نستعين بها، فالفن التشكيلي لم يعد مجرد لوحة، وإنما هو مفتاح كي يتم تثقيف الناس وتطوير فكرهم، والدليل على كلامي نحن لم نقدم شيئا جميلا يمتّع به الفقراء نظرهم ولم نقدم فنا تشكيليا للعامة، ولم نلعب دور الموجه أو المرشد في حياتنا الاجتماعية. واليوم وفي ظل ما تعانيه سورية علينا أن نفهم الضرورة الفنية ونتلافى الأخطاء القديمة. وخاصة أنه لو كنا نملك مناعة ثقافية لما حصل الذي حصل، ولو لم يكن لدينا استعداد وضعف لما وصلت الأمور إلى هذا الحد، لذلك علينا أن نوظف الثقافة في الفن التشكيلي بالذات والذي هو أرقى أنواع الثقافات، لأن فيه نوعاً من تطور العقل، وخاصة أن ليس الكل قادراً على استساغته وفهمه ومن ثم متابعته إذا ما قارناه بالموسيقا التي تستهويها شريحة أكبر بكثير من الفن التشكيلي، الذي يحتاج إلى نوع من الثقافة المتدرجة، بعكس الموسيقا المرتبطة بالغرائز. وبالعودة إلى سورية ليس لدينا من هو متحمس للفن التشكيلي، على حين في أوروبا عندما اعتمدوا على الثقافة البصرية تطوروا وتقدموا، وخاصة أن الفن التشكيلي يرفض كل ما هو بشع في الحياة.

كموجه اختصاصي لمادة التربية الفنية بدمشق.. هل المركز التشكيلي سيأخذ مكان المدرسة في نشر الثقافة التشكيلية… وهل تعممت الفكرة في كل المحافظات السورية؟
لا نستطيع.. لأن الرسم هو نشاط وليس منهاجاً- على الرغم من أنه يمكن الاعتماد عليه في مراحل معينة مثل الروضة-لكن في مراحل أخرى كالتعليم الأساسي لا نستطيع، ومن ثم نحن كلنا نحمّل التربية مسؤولية كبيرة، بأن ساعات الرسم أو حتى الموسيقا تذهب هباء ولا نقدم فيها شيئا مجديا، لكن هذا ليس مسؤولية التربية والمدارس، بل هو مسؤولية الدولة، من خلال إنشاء مراكز تستوعب الأطفال، بعكس الحصص المدرسية التي ربما تكون ساعة أو ساعتين أسبوعيتين، وهي متنفس له من ضغط المواد الأخرى، لكن في النهاية هناك العطلة الصيفية، التي فيها الكثير من الفراغ في حياة الطفل، وهدفنا في التربية هو استغلال هذه الفترة، ومن ثم استغلال فراغ الطفل بطريقة ناجحة، وهنا أريد أن أشكر وزير التربية هزوان الوز على جهوده المبذولة، وخاصة في مشروعه الهادف إلى احتواء الأطفال وعدم السماح لهم باللهو في الشارع خلال العطلة الصيفية من خلال المركز التشكيلي، وخاصة أن الأسر غير مثقفة، وللأسف هي من تقوم بإفساد تربية الطفل وثقافته سواء بأساليب أم بكلام، فالأهل أو الأسرة تتدخل بكل ما تقدمه المدرسة على اعتبار أنهم حريصون على طفلهم- نعم هم محقون- ولكن الطريقة والأسلوب خاطئان، فمثلا في الفترة الأخيرة وبقصة المناهج- نعم هناك أخطاء- ولكنها قابلة للإصلاح، والأمر المرعب هنا هو زعزعة إيمان الطالب بين كتاب مدرسته وانعكاس الأمر على علاقته بمدرسه، وبالمحصلة علاقته بمدرسته. ما أريد تأكيده هو التالي: المشروع الثقافي مشروع استراتيجي متكامل، تتدخل فيه الوزارات سواء أكانت ثقافة أم إعلاماً وتربية وغيرها، لأننا بحاجة لتعاون كبير لتربية الطفل، والأمر ليس قاصرا على وزارة التربية- وهو ليس من مسؤوليتها وحدها- ولكن هذا الأمر نحن لا نفهمه. أعود وأكرر نحن بحاجة إلى مشروع إستراتيجي، لأنه في النهاية سيؤثر في كل حياة الطفل، بداية من التعارف مع زملاء له في المراكز، ومن ثم خلال الأنشطة التي سيتفاعل معها، ويفرّغ طاقاته فيها، وهنا أريد أن أركز على فكرة جدّ مهمة بخصوص المراكز التشكيلية، ليس هدفنا أن يصبح الطفل فنانا تشكيليا، بل هدفنا هو أن يتثقف ويخرج من المنزل ويستغل وقته في أمور إيجابية تطور شخصيته ومداركه، وهو ما يبعده عن مظاهر الجبن والعنف المنتشرة اليوم بشكل واضح بين الأطفال.

من خلال مشاريع الجدرايات العامة التي عملت عليها، هل سمحتم للأطفال بالمشاركة في العمل معكم.. وخاصة أننا من خلالها نصل إلى الهدف المنشود في نشر الثقافة البصرية للأطفال والمحافظة عليها؟
نعم.. حاولنا أن يساعدنا الأطفال، وبالفعل شارك معنا البعض منهم من خلال جمع المواد أو حتى العمل التشكيلي، والفكرة الأهم أنّ بعضهم بدأ ينفذ في الصفوف. ولكن المشكلة هي أن تقنية هذه المشاريع صعبة على الطفل، لأننا نستخدم مواد تحقق الديمومة للجداريات كالاسمنت والزجاج وغيرها، والتعامل مع المواد فيه خطورة على الأطفال، ولكن هناك الكثير منهم من أحضر لنا بعضا من المواد التالفة والقابلة للتزيين. مشاركتهم حتى لو كانت بسيطة هي مهمة، من خلال التعاون والسعي لنشر الجمال والمحافظة عليه. هنا أريد أن أشير إلى أمر جد مهم، وهو أننا يجب أن نسعى إلى أن يشارك كل الأطفال سواسية، وليس فقط المتفوقين أو الموهوبين، فهذا الكلام غير منطقي لأن التمييز يثير مشاكل بينهم، ويدفع غير المشاركين إلى تصرفات تخريبية وعنيفة تجاه الآخرين، إذا أمور كهذه يجب أن تكون بالفعل مدروسة، وحتى تنجح يجب ألا نستثني أحدا من الأطفال في تحقيق المشروع الفني. أنا كموجه تربوي لمادة الرسم، ضد وضع علامة للرسم في الامتحان المدرسي، فعلى أي أساس يتم وضع العلامات أو يتم تقديرها، هذا الأمر فيه الكثير من الإحباط لباقي التلامذة، لهذا علينا تدارك الأمور فالعملية التربوية هي عملية سيكلوجية بحتة.

قلت إن مشروع الجدرايات في الشوارع يهدف أن يقدم فنا للعامة؟
نعم.. كما أسلفت وقلت أعمال الفنان التشكيلي هي فقط للغني، فلوحات أي فنان منا موجودة في المنازل الفارهة، والفنادق، والفلل، والإنسان الفقير لا يراها. من هنا جاءت فكرة الجداريات والأشجار لتجعل من حق الفقير أن يرى الجمال وأن يعوّد نظره إلى ثقافة بصرية راقية، وخاصة أنه لم ير في عمره عملا فنيا، فهذا المشروع ثقافي وعملنا عليه مع فناني «إيقاع الحياة» كي نزرع الجمال أينما كان، وبالطبع المشروع موجه للأسرة ومن ثم الطفل، وهذه هي التربية الحديثة بخلق الجمال الذي من خلاله نخلق إنساناً ومن ثم وطن.

صمتك دام خمس سنوات كي تخرج منه لنا بأعمالك الفنية التي احتواها معرض «مخوليات» في صالة ألف نون في دمشق.. أليست المدة طويلة؟
صحيح أنّ المدة طويلة، ولكنني كنت أعمل في الجداريات في الشوارع، وبالنسبة للوحات لم يكن الجو مهيئاً لإقامة معرض، ولكن اليوم وضع البلد تحسن، وأنا مثل الكل أثرت في الأزمة، ولكن صمدنا ولم نبع ذكرياتنا وأصدقاءنا وهمومنا وأحزاننا، كي نشتري هموما وأحزانا جديدة تخلقها الغربة عن الوطن، بل بقيت هنا متصالحا مع أحزاني وهمومي، لذلك لم أعمل معرضا فرديا، واكتفيت باللوحات الجدارية في الشوارع مع فريق «إيقاع الحياة» من الفنانين التشكيليين، وطبعا رسمت ولكنني لم أعرض، وكنت مستغرقا ومتأملا في الظروف وفي الحزن والألم، وشجعني كتاب «مخوليات» والفنان بديع جحجاح من خلال نشره، فنحن في هذا الوقت نحتاج إلى كل تشجيع وتحريض.

أنت من قرّاء الفلسفة ومحبيها وخاصة أنها أصبحت شريكاً لك حتى في لوحاتك المصبوغة بالتجريدية.. الغموض ألا يصعب على المشاهد قراءة وفهم عملك؟
الفن التجريدي هو من أهم الفنون، لأن فيه علم نفس وفلسفة حوارية وفيه نوع من المعاصرة التي فرضت علينا آلية بصرية جديدة، حيث أصبح اللون شيئاً أساسياً في المجتمع في وقت لم يكن هناك لون، إذاً الأمور كلّها تؤثر في الحركة التشكيلية وخاصة أنّ هناك حركة سريعة في التطور، وعلى الإنسان أن يواكبها، وأصبح المجتمع الفني التشكيلي يضم آلاف الفنانين، وهو ما يدفع الفنان أن يبحث عن ثقافة فنية جديدة تناسب العصر الجديد، لأن هذا الفن التشكيلي التجريدي يطوّر الحالة الإنسانية ويكون بعيدا عن الركود، وخاصة أنّ الفن التجريدي هو بقايا ذاكرية بصرية.

قلت مرة «يجب على الإنسان أن يتغلب على قدراته ليعود طفلاً من جديد»، ما القدرات التي تتغلب عليها كي تحافظ على الطفل الذي في داخلك؟
أي شيء في الكون أو أي عمل ثقافي أو أدبي أو أي حب، إذا لم يكن نابعاً من الطفولة فلن ينجح، فالطفولة هي رمز البراءة، ليس فيها خوف، الطفولة تجعلنا نعيش على حقيقتنا الإلهية، ففي الطفولة الفرح والمرح والابتسامة، وهذه كلّها عناصر تخلق الإبداع، لذلك أي عمل فني يجب أن يكون فيه طفولة، وبرأيي إن المرء عندما يكبر يصبح خزان عقد، حيث يجمع في ذاكرته كل الرواسب والضغوط والهموم ويصبح بعيداً عن الأمور المرحة، وهذا كله بسبب عقد الثقافات والعادات والتقاليد وأمور الحياة، بينما في الطفولة نجد كل البساطة.

اليوم تميل إلى الكتابة، وتمت طباعة خواطرك «مخوليات» التي كنت قد نشرتها على صفحتك على الفيسبوك… هل سنراك في مشروع كتابي؟
ليس المهم أن يكون المشروع أدبياً، بل المهم أن نعبّر وأن نتكلم، وليس الهدف أن أنشر وأوزع الكتب، فلم يعد هناك ما يسمى أدباً منظماً أو أدباً موزّعاً، بل أصبح هناك شيء اسمه «كلمة» تعيش مع المرء بسرعة وتوصل له الفكرة والإحساس المطلوب، ويقرؤها في كل الأوقات. الأدب الذي أسعى إليه أدب بسيط يوصلنا إلى فكرة جد مهمة في الحياة وهي «كيف نحب الآخر «بأبسط الأمور وبأقل الخسائر» هذا هو الأدب الحديث الذي أسعى إليه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن