اقتصاد

أسواقنا الفاسدة

| علي محمود هاشم

لا صعوبة في تلقي الخلاصات التي أطلقها رئيس اتحاد غرف التجارة في الدورية الأخيرة من «الأربعائية» التجارية.
تناول الرجل التهريب كـ«أم المشاكل» معلناً «تفشّيه» في الأسواق «المليئة به».. هذه الخطوة المتقدمة في توصيف بعض ما يواجهنا، تتمظهر كـ«فعل ندامة» عما سبق من مقاومة شرسة أبداها تجارنا منعا للرقابة الجمركية من النفاذ إلى حيث يجب.
بالتضامن مع بعض الجمارك، وتحت يافطة «صورة أسواقنا المشرقة»، نجح التجار في تشريد الضابطة الجمركية، ولاستكمال حلقة حماية المهربات في المتاجر، مُنعت الرقابة التموينية من لمح البيان الجمركي للبضائع المشكوك بمصدرها!.. كان لذلك المركب المثقل بلهفة الربح، أن يرسو في هذا الميناء المتخم بالمهربات، فكما للتجارة رجالها، للتهريب أشباحه، ولم تكن انسيابية اللحظة التي شعرها تجارنا مواتية يوماً، سوى إرهاص لمآلاتها القائمة.. وحدها نزعة الربح بأي ثمن، جعلتهم يصرون على التحديق في عين الشمس!
ما أخطأه التجار بالأمس، ينزلقون إليه في التسعير اليوم، قول شيخهم، وشيخنا أيضاً: إن «التلويح بعصا التسعير يُفقد السلع في الأسواق» رغم تأكيده استمرار التلاعب ببيانات التكلفة، ورغم ما تؤكده جهات مرجعية من هبوب أسعار بعض السلع 6 أضعاف سعرها العادل، إنما يحاكي طريقتهم السابقة بالتعاطي مع التهريب، ولن يطول بهم الوقت حتى يحطوا في ميناء مشابه لرؤاهم الاستنسابية هذه.
على عكس التهريب، تبدو قضية التسعير العادل أكثر تعقيداً، لا يحتاج الأمر إلى نباهة لالتقاط انقسام الحكومة حيال الأمر ورسائلها المتناقضة «بالوساطة» إلى الأسواق، ففي وزارة السياحة مثلاً، تأخر تسعير اللحوم البيضاء للشهر الثالث على التوالي، لا بل لم يتوان مسؤولوها عن المجاهرة بامتعاضهم وتوجيه انتقادات علنية لما ذهبت إليه الرقابة التموينية في خفض الأسعار، وعلى قياس «التلويح بالعصا يفقد المواد في الأسواق»، تكاد الكلمات تقفز من أفواه مسؤولي السياحة أولئك، مطالبة تجار اللحوم باجتراح طريقة احتكارية ما تعيد الأسعار إلى سابق عهدها.. تماماً، كما جرت عليه الحال في سلع أخرى تم التراجع عن خفض سعرها؟!
ليس مسؤولو السياحة وحدهم من أطلق دعوة مبطنة للاحتكار، في سلع كـ«المتة» والأعلاف وكذا البيانات الواردة من أسواق الفروج الرئيسية في العاصمة وغيرها، يلفت ما استطاع المحتكرون النزّاعون إلى الأرباح الفاحشة، حشده ضمن خط دفاعهم العريض رفضاً لتخفيض الأسعار. اللافت في الأمر، التحشّد الطوعي لبعض المنصات التي تستلقي على الوسادة الحكومية إلى جانبهم!
إلى الخلف من قضية التسعير، يمكن استلماح لقطات أخرى من البيئة الفاسدة التي تظلل أسواقنا، وفق الاعترافات الرسمية، فتزوير البيانات الجمركية على حاله كماً وكيفاً، والمهربات تتدفق بكل رزانة واحترام وما يُضبط على الطرقات يشي بحجم ما لا يُضبط في الأسواق.. التلاعب الهائل ببيانات التصدير يبلغ مبلغه، وفق ما تؤكده وزارة الاقتصاد في معرض «سردية التعافي غير الملحوظ» للإنتاج.. تبخر السلع المستوردة من الأسواق في اليوم التالي لإعلان خفض أسعارها تحت مزاعم «تهريبها» الطفولية.. كل ذلك وغيره، إنما يؤشر إلى عمق الفساد الاحتكاري الذي يكتسح المستهلكين جيئة وذهاباً!.
في قصة «العصا وفقدان السلع» ثمة ما يستوجب قوله: لا أحد ينكر على القلاع تلبية طموحات من هو شيخهم، إلا أن مسؤوليته تقتضي عدم تكرار التاريخ مع التهريب، مهزلة في التسعير، فمعادلة من عيار: إما يربح التاجر على هواه وإلا «تُفقد السلع»، لهي أحد محفزات التهريب الذي يتآكل أرباحهم بعدما تترك هوامشها الفاحشة خلفها، فسحة رحبة لترعرعه.. الحكمة تقتضي ألا يرسو المرء في الميناء الخطأ لأكثر من مرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن