ثقافة وفن

نجمات عشرينيات القرن الماضي خارج الذاكرة … سلطانات وملكات وهوانم ذاك الزمن… يندر من يعرفهن

| أحمد محمد السح

يبدو إلى الكثيرين اليوم أن الرجوع إلى تراثيات الغناء القديم هو عمل بحثي أكثر منه عمل تذوقي للاستماع والاستمتاع بما جادت به عقول الملحنين وحناجر المغنين في بداية مرحلة التسجيل الغنائي في البلاد العربية، وقد باتت هذه التسجيلات اليوم شبه مفقودة، كما أن قليلاً من المهتمين على المستوى الفردي أو المؤسساتي تمكنوا من إيصال هذه التسجيلات للمستمع، ربما لقناعتهم أن المستمع صارت هذه الأغنيات خارج اهتماماته ولن تشفي ذائقته المتبدلة، فلو بحثت عن تسجيلات لأسماء غنائية لسيدات لمع نجمهن في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، فستجد أن عدد الأغاني المتبقية لهن قليلة، ومتكررة في جميع المصادر كما أن المعلومات الشخصية والمعرفية حولهن قليلة جداً ومتكررة بصحيحها وخطئها كذلك.

ففنانات ذاك الزمن كنّ مغامرات حقيقيات بسمعتهنّ مرفوضاتٍ من البيئة التي خرجن منها، وبالوقت نفسه محاطاتٍ بهالةٍ من الأبهة والتعظيم من الأوساط الغنائية والسلطات التي حكمت بلادهن، وببحث سريع ستكتشف أن أقدم الأسماء الغنائية النسائية وُلدت في مصر، ومن ثم العراق، في حين تأخرت كل دول المنطقة العربية في تقديم فنانات، فالمغرب مثلاً قدم فنانته الأولى في ستينيات القرن الماضي، في حين كانت مصر والعراق تنتج الأغاني للملحنين في العشرينيات، والثلاثينيات، وتتركز أسماء الملحنين الذين اهتموا بهذه النساء، بسيد درويش وعبده الحامولي الذي احتضن زوجته ألمظ، وهو صاحب أقدم تسجيل على الاسطوانات غرامافون، ومعه الشيخ أبو العلا محمد وزكريا أحمد ومحمد القصبجي بعدهم بقليل.
امتازت الأغاني التي غنتها تلك الفنانات بأنها تميل إلى مناجاة الطبيعة ومحاكاة الحياة اليومية، فلم تكن الكلمات التي يغنيها أغاني ذات لغة شعرية عالية أو جملة مدهشة إنما كانت كلاماً يشبه الكلام اليومي مع بعض التنغيم والتقفية، وإدخال اللغة الفصيحة بما يتناسب مع لغة المجتمع الذي يخاطبونه وهو مجتمع النخبة لا مجتمع العوام، وفي مصر حصراً هذه المجتمع كان ذا أصولٍ تركية أو يونانية أو رومانية وبالتالي لغته العربية غير سليمة فيضطر إلى التكسير في اللغة لاحتواء هذه الأغاني وفهمها والتواصل معها، أما الألحان فقد كانت مستلهمة من الأدوار والموشحات الأندلسية التي تعتمد التخت الشرقي البسيط وآلات ذاك العصر والمتناسبة مع حاجة الزمن وإمكانياته.
تميزت أصوات فنانات العشرينيات والثلاثينيات بقوّتها، فهي ليست أصواتاً تتميز بجمالية أو بحة خاصّة إنما يجب أن تكون قوية فقط، ربما لتسمع جمهور المستمعين جميعاً، كما أن لكل فنانة مسرحها الخاص ولها فرقة من المحيطين به تتصدرهن «المساعدة» وهي شابة تتبع الفنانة تكون ذات صوت جميل، تربّيها الفنانة على يدها وتعلمها أصول الغناء، وغالباً ما تتحول المساعدة إلى فنانة مستقلة لها مسرحها ومساعدتها لاحقاً، كما أن الفنانة يجب أن تحصل على لقب خاص بها لا يقال لغيرها، ويكون لقباً تعظيمياً فيه أصول سلطوية مثل «الملكة، السلطانة، الست، وغيرها» طبعاً في بداية التسجيل تقول المساعدة اسم المغنية مع لقبها، واسم شركات الاسطوانات وهي محصورة بثلاث شركات (بيضافون) ويجب أن يتم التأكيد أن التسجيلات من غير «خشخشة» كما أن المساعدة لا بد أن تصيح بصيغة تشجيعية بين حين وآخر باسم «معلمتها» المغنية تأكيداً على أنها قد سلطنت بشكل كامل مع الأغنية.
ويجب الوقوف عند عدد من الأسماء التي كانت نجوماً لا تقارن بأحد ومنهن:
رتيبة أحمد وهي شقيقة الفنانة الأكثر شهرةً منها بقليل فتحية أحمد، فوالدهما أحمد الحمزواي كان منشداً ومغنياً، وقد انتهجت بناته نهجه، وهن من حي الخرنفش القديم في القاهرة، لحّن لها كل ملحني تلك الأيام، لكنها تميزت بالأغاني الخفيفة التي وُصفت بالخلاعة، ويبدو أن هذه كانت ميزة حياتها الخاصة التي يبدو أنها كانت غير سويّة فقد كانت نموذجاً لفنانات ذاك الزمن بمعنى الغواني أكثر منهن كمغنيات، حتى إنها لقبت بملكة الكخة والدحة نسبة إلى أغنيةٍ لها تقول فيها «أنا حاسة» اليوم تغيب معظم أغنياتها عن الذاكرة لكن من الممكن أن تجد لها بعض التسجيلات مثل (أنا حاسة- قولوا لي بالذمة يا أفندية– يا حلاوة دي الصباحية دويتو مع عزيزة حلمي يعتبر من أقدم الدويوتهات النسائية وهو ردحية نسائية شعبية جداً– يا أنا يا أمك)، ويبدو أنه من الصعب تحديد مواليدها بدقة.
نعيمة المصرية: من مواليد 1894 وتوفيت عام 1976، لكنها اعتزلت الغناء مبكراً لذلك اختفت عن الساحة، مع أنها كان من الممكن أن تستفيد من تقنيات الإذاعة والسينما لنجد لها أرشيفاً فقد عُمِّرت طويلاً. وقد امتلكت مسرح الهامبرا. أكثر الملحنين تعاوناً معها كان داوود حسني، لها بعض الأغاني التي ظلت محفورة في الذاكرة دون أن يعرف الكثيرون أنها لها مثل (يا بو الشريط الأحمر- يا بلح زغلول يا عزيز عيني– يا ميت مسا عالعيون الكويسة…) ومن الممكن إيجاد عدد من أغانيها منتشرة عبر الانترنت مع أن هذه الأغاني تم تجديدها بأصوات متعددة، وبقية الأغاني اندثرت. وكان لقبها الست.
منيرة المهدية: لقبت بالسلطانة عاشت حياة رفاهية وكانت أولاهن وأشهرهن في عالم الغناء، وكان ملوك مصر يعطونها قيمة خاصة (1885– 1965) اعتزلت الفن مجبرةً بعد أن أصبحت خارج المنافسة مع الفنانات اللواتي جئن بعدها صغيراتٍ، جميلاتٍ وناجحات مثل أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد، لها فيلم واحد اسمه الغندورة 1935، من أغانيها التي بقيت (أسمر ملك روحي – يمامة حلوة – بعد العشا).
صديقة الملاية: (1901 – 1969) مطربة عراقية سيدة الغناء في العراق، ذاع صيتها كثيراً منذ عشرينيات القرن الماضي، وظلت دون منافسة تذكر حتى ستينيات القرن الماضي لا تزال من أغانيها المشهورة (ربيتك زغيرون) ولكن غيرها من الأغاني اندثر اليوم.
ثمة أسماء كثيرة من الفنانات قد تجد لهن أغنية هنا أو أغنية هناك لكن السر في اندثار هذه الأغاني واختفاء أسماء المغنيات اللواتي كنّ من الأبهة الشيء الكثير، أنهن حين دخلت السينما حياة الفن في مصر كنّ خارج السياق فجميع الصور لهن تؤكد بدانتهن إن لم نقل قلة جمالهن، كما أنهن كن أميات أصواتهن قوية لكنهن لا يفهمن في الموسيقا أو الشعر أو الأدب، فكان الملحنون يعتمدون تحفيظهن الكلام تحفيظاً، وهذا ما دفع الملحنين للابتعاد عنهنّ حين دخلت أم كلثوم الوسط، فتاة أصغر سناً وتعرف القراءة والكتابة، وتجيد أحكام التجويد من خلال حفظها للقرآن، لتكون أم كلثوم أول فنانة تقدّم الفن بنقاء صورته مبتعدةً عن صورة الغواني التي سادت قبلها، وهو سرّ خلودها دون شكّ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن