ثقافة وفن

«أنا كنت رجلاً بسيطاً جداً هذا شرف لي وعار علي»…بابلو نيرودا التشيلي الذي عشق إسبانيا واصطبغت قصائده بلون العتب واللوم

 ديالا غنطوس : 

وطن هي المرأة، امرأة هو الوطن، عالمان ملتصقان، كوكبان يدوران معاً، يلتفان حول نفسيهما ليحتويا بعضهما، غمرة المرأة وطن، حنان الوطن تفاصيل أم، أرض تتمدد لتكون لنا الثرى ونصبح نحن الثريا، هي كذلك المرأة، الأم، الحبيبة، الصديقة، الوطن الحبيب الذي ضاعت تفاصيله في جسد أنثى فأصبح غاية المنتهى والمشتهى، صدق من قال إن المرأة وطن، نحتمي ونستظل به، نرقد بين ذراعيه في الطفولة والصبا والمشيب، لتصبح الحبيبة الأبدية ويصبح الوطن دماً يسري في العروق، فهل تخان الحبيبة؟ وهل يستطيع أحدنا أن يبتعد عنها؟

ثنائية لا يبرع في فن تصويرها إلا من امتلك قلماً مبدعاً، مدركاً لأوجه الشبه بين الموصوفين في تلك العلاقة، وقد أتقن ذلك الفن الشاعر التشيلي الشهير «بابلو نيرودا» فكان ملعبه الذي لا يغلبه فيه أحد، اعتُبر بابلو أحد أهم وأشهر شعراء اللغة الإسبانية والكثير من لغات العالم، حيث انتشرت كتاباته ولاقت رواجاً واهتماماً بالغاً من القراء والنقاد في عصره، فحقق شعبية كبيرة خصوصاً في أميركا الجنوبية، موطنه، وعايش بابلو أحداث القرن العشرين منذ بدايته، حيث إنه ولد عام 1904 في قرية بارال التي تتوسط تشيلي، وقد تنقل بين بلدان عدة في الفترة التي كان فيها سفيراً لبلاده من عام 1927 حتى 1943، وقد أثر فيه إعدام الشاعر والكاتب المسرحي فيدريكو غارثيا لوركا من الثوار القوميين خلال الحرب الأهلية في إسبانيا عام 1936، وقد جمعت بينهما علاقة صداقة وطيدة سابقاً، ما دفعه للتوجه للعمل السياسي وتبني أفكار شيوعية متطرفة وجهها ضد الفاشية، ما أعطاه جرعة كبيرة في النشاط السياسي والدفق الفكري الذي ترجمه بكم وفير من الأشعار السياسية، وصار عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وعُرض عليه أن يرشح لرئاسة بلاده لكنه رفض ذلك العرض، إلا أنه شعر لاحقاً بتهديد مباشر ومباغت عام 1948 عندما حظر رئيس تشيلي غابرييل فيلدا الحزب الشيوعي وأمر باعتقال بابلو نيرودا، ما دفعه للتواري عن الأنظار والرحيل والهجرة إلى المنفى على ظهر حصان أوصله إلى الأرجنتين.
كان لأشعار بابلو وأعماله الفضل الكبير في تطوير اللغة الشعرية العالمية، فامتاز بأسلوب سردي وتصويري فريد اختلف عن نظرائه من الشعراء الذين عاصروه، ما جعله مؤسساً لما يشبه مدرسة مستقلة في الشعر، بدأ بتأليف القصائد الشعرية وهو في سن الثالثة عشرة، وفي عام 1923 ظهرت مجموعته الشعرية الأولى «الشفقيات»، ليأتي بعدها كتابه الثاني حين كان في العشرين من عمره، حمل اسم «عشرون قصيدة حب وأغنية يأس» كتبه عام 1924، وتضمن أفكاراً رافضة للظلم والمهانة صوَّرها بابلو بأسلوب ساخر وواضح، فواجه صعوبات في نشره حينها، لكنه لاحقاً كان سبب بلوغه الشهرة وهو في سن العشرين، وأكثر أعماله التي حظيت بإعجاب الجماهير كما النقاد، وجرت ترجمته إلى الكثير من اللغات العالمية من بينها اللغة العربية.
تصطبغ قصائد نيرودا بلون من العتب واللوم على عالم صامت، واليأس من أي اكتراث قد يبديه العالم تجاه الفئة المظلومة المكلومة، فنقرأ في قصيدة «أيتها النحلة البيضاء» من المجموعة نفسها:
أيتها النحلة البيضاء التي تحومين داخل روحي،
سكرى بالعسل، وتدورين متمهّلةً كالتفاف الدخان.
أنا اليائسُ، الكلمةُ بلا أصداء،
الذي فقد كل شيء، وكان لديه كل شيء.
أنت الوردة الأخيرة في أرضيَ القاحلة.
آه أيتها الصامتة!
عَرّي جسدكِ الشبيهَ بتمثالٍ خائف.
لك عينان عميقتان ينسكبُ فيهما الليل.
ذراعان نَضِرتان من زهرٍ، وحضنٌ من ورد.
ثدياكِ صَدَفتان بيضاوان.
وفراشةٌ من ظلّ جاءت لتنام على صدرك.
قرر بابلو بعد ذلك الانتقال للعيش في سانتياغو عاصمة بلده تشيلي، ودخل عالم الأدب من أوسع أبوابه، لكنه عاد وغادر إلى بورما التي تم تعيينه قنصلاً فخرياً فيها، ليستهل فترة إقامته هناك بكتابة مجموعة قصائد كان عنوانها «إقامة على الأرض» عام 1933، غلب عليها طابع الغربة والتشاؤم والفوضوية، إلى أن ذهب مجدداً إلى إسبانيا وكسر قيود عزلته متفاعلاً مع الأحداث السياسية المحيطة، فاتخذت أشعاره نمطاً سياسياً بحتاً، ليعود مجدداً في فترة الخمسينيات من القرن الماضي إلى موطنه تشيلي بعد أن صدر عفو عنه، فنشر حينها أربعة مجلدات تحوي قصائد غنائية كان منها «النشيد العام» و«أناشيده الأولية» التي صدرت خلال تلك الفترة وحظيت بالإعجاب على المستوى الشعبي، وتوالت لاحقاً أعمال بابلو نيرودا ونذكر أهمها وأكثرها شعبية «ذكرى الجزيرة السوداء» عام 1964، «أيدي النهار» 1968، نهاية العالم 1969 و«كتاب الأسئلة» عام 1974، الذي تضمن كماً هائلاً من التساؤلات المبدعة التي تركها جميعها من دون أجوبة، ومن أشهر ما كتب نيرودا كانت مجموعة «مئة سوناتة حب» عام 1959، أذكر بعض ما جاء فيها:
أنا لا أحبك كوردة من ملح الزبرجد
كما نحب بعض الأشياء الغامضة
إنما بين الظل والنفس، سراً أحبك
أحبك كالنبتة التي لا تزهر
التي تحمل في ذاتها، خبيئاً، ضوء هذه الأزهار
وبفضل حبك يعيش غامضاً في جسمي
العطر المهموم الذي يفوح من الأرض
أحبك ولا أعرف كيف ولا متى ولا أين
أحبك بلا مواربة، بلا كبرياء، بلا مشاكل
أحبك هكذا، ولا أعرف طريقة أخرى للحب
عاد نيرودا إلى حياته الطبيعية وتحرر من الأسى والوحدة في الفترة بين عام 1950 حتى 1960، حين تزوج من المرأة التي أحبها وعاشا معاً على شاطئ البحر الذي أكسبه بعضاً من السكينة واختلى مع نفسه، فتوحد مع الطبيعة التي كان دوماً جزءاً منها، لكن في عام 1970 دق مرض السرطان بابه ولم يتمكن من الشفاء منه بشكل كامل، إلا أن ذلك لم يمنعه من الحصول على العديد من الجوائز التقديرية في الفترة الأخيرة من حياته كان أهمها جائزة نوبل للآداب التي حصل عليها عام 1971، إضافة إلى الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد، حتى تدهورت صحته عام 1973 بعد أن شهد الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال بينوشيه في تشيلي، فتوفي في 23 أيلول من العام نفسه بعد 12 يوماً من الانقلاب، تاركاً إرثاً عظيماً أثرى به الأدب العالمي الذي كان أحد أبرز صناعه، فكان من الشعراء القلائل الذين دأبوا من خلال كتاباتهم على تجسيد الوطن على هيئة امرأة، فكانت لهم رمزاً للحنين والانتماء والوفاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن