قضايا وآراء

أنقرة تعزز مواقعها

| أنس وهيب الكردي

المتابع للشؤون الإقليمية لا بد أن يسجل أن الموقع التركي في المنطقة تقلب في المنطقة صعوداً وهبوطاً، على الأقل، مذ قررت أنقرة التخلي عن سياسات «صفر مشاكل»، وباتت تقدم نفسها كفاعل إقليمي يطمح إلى انتزاع مكانة سامية له في الشرق الأوسط وكلمة مسموعة في سياسات الهلال الخصيب عبر الهيمنة على سورية.
إلا أن تركيا أخفقت إخفاقاً رهيباً في تحقيق هذا المشروع الطموح، الذي يمكن وصفه بـ«برنامج الحد الأعلى»، وأخلى المسؤول عن هذا التوجه «الإمبراطوري»، أحمد داود أوغلو، مكانه أمام بن علي يلدريم في رئاسة الوزراء، كدليل على تحول أنقرة إلى نهج أكثر براغماتية، هدفه ضمان مصالح الأمن القومي التركي الضيقة فيما يمكن وصفه بـ«برنامج الحد الأدنى»، الذي جاء لإنقاذ تركيا نفسها، ولتحقيق ذلك تخلى يلدريم، تحت إشراف الرئيس رجب طيب أردوغان، عن سياسة التعاون مع الأميركيين والأوروبيين حيال سورية، وقرر إطلاق مسار جديد مع روسيا، انضمت إليه لاحقاً إيران.
اليوم باتت تركيا شريكاً في عملية أستانا، وطرفاً في التحضير لمؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي تخطط موسكو لعقده في مدينة سوتشي على البحر الأسود، وما تقدم يعني أن الأتراك أصبحوا شركاء في الترتيبات الخاصة بالمناطق الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات في سورية.
لقد كانت أنقرة بمثابة الشريك الأصغر على طاولة أستانا، والأقل نفوذاً مقارنة بشريكتيها روسيا وإيران، لكن حدث تبدل في الوضع مؤخراً، لا بد أن يلقي ذلك بظلاله على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية، فلقد ارتقى الموقع التركي بشكل مفاجئ بين ليلة وضحاها، وجاء ذلك نتيجة الاتصال الهاتفي الأخير ما بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب وأردوغان، فلا يمكن لقرار ترامب تعديل الدعم المقدم لتحالف «قوات سورية الديمقراطية -قسد» الذي تقوده مليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، إلا أن يترافق مع جوانب أخرى، ستتيح للأتراك تبوؤ مقعد على طاولة تقرير الترتيبات الخاصة بشرق سورية ما بعد تنظيم داعش.
ذهبت واشنطن نحو تنشيط علاقاتها مع أنقرة بعد تزايد التأكيدات الصادرة عن دمشق وطهران، بفتح معركة من أجل تحرير مدينة الرقة من سيطرة «قسد» بعد دحر مسلحي تنظيم داعش منها قبل أسابيع، كما أن تحسن العلاقات الروسية الإيرانية التركية، وتتابع جولات أستانا، وأخيراً، القمة الثلاثة، التي عقدها زعماء روسيا وتركيا وإيران في مدينة سوتشي، أقلق الأميركيين حيال إمكانية انسلاخ الأتراك بعيداً عن التحالف الغربي في المنطقة ليقتربوا من الروس والإيرانيين، وذلك في حين يبدو الشرق الأوسط مقبلاً على معارك وتسويات كبرى سيكون العام 2018 مسرحاً لها.
على الرغم من أن واشنطن أمنت، مؤقتاً، المناطق الواقعة شرق الفرات عبر الاتفاقات التي عقدتها مع روسيا، إلا أنها تعلم أن إستراتيجيتها الشرق أوسطية المرسومة بهدف عزل الإيرانيين في المنطقة وإعادتهم إلى ما وراء حدود بلادهم، غير ممكنة، فيما لو ظلت طهران تحظى بالدعم المشترك من روسيا وتركيا، وتدرك الولايات المتحدة أن الروس ليسوا في وارد التخلي عن علاقاتهم الإستراتيجية مع طهران، التي مكنت موسكو من توسيع هامش مناورتها في الشرق الأوسط وزيادة مداها الإستراتيجي عبر المنطقة، لذلك، مثلت أنقرة هدفاً أسهل بالنسبة لواشنطن التي تدرك أن موقفها على المدى البعيد في أوروسيا، مرتبط بحسن تفاهمها مع الأتراك، بالأخص أن بلادهم تمثل أكبر رأس جسر ما بين روسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
عملياً تدفع الحقائق الصلبة على الأرض الأميركيين والأتراك للتقارب، فقد وصل مسار أستانا إلى مكان لم يعد قادراً على توفير أدنى مكسب للأتراك، وعفرين على سبيل المثال، كما أنه أدى إلى نتيجة مقلقة لكافة الدول الإقليمية والغربية تجلى في موافقة الروس والأتراك على وجود عسكري إيراني في ريف دمشق.
بالترافق مع نتائج حملة الجيش السوري وحلفائه على تنظيم داعش، أصبحت أسوأ الكوابيس الأميركية والإقليمية، واقعاً، مع تحقق ممر بري يبدأ من طهران وينتهي بالسواحل السورية واللبنانية، وهيأت هذه الحملة، الأرضية لأخرى باتجاه الرقة أو إدلب.
من جهة أخرى، أدت حملة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على تنظيم داعش في كل من سورية والعراق، إلى نتيجتين متعاكستين كذلك، فمن جهة، حررت واشنطن من حاجتها إلى مليشيا «وحدات حماية الشعب»، وجعلت مناطق سيطرة الأخيرة عرضة للتهديدات من جميع الاتجاهات، أولها القوى العربية المنضوية تحت لواء تحالف «قسد»، والتي قد تتعاون مع الأتراك، أو دمشق والإيرانيين لزعزعة استقرار المنطقة الشرقية بالكامل.
بالتالي، لم يعد بإمكان الأتراك المضي أكثر في عملية أستانا، لأنها ستؤدي إلى تنازلات تركية، لإيران تحديداً، من دون مقابل، ولم يعد بإمكان الأميركيين تأمين استقرار المناطق الواقعة شرقي الفرات من دون انفتاح على طرف وازن، وهذا الطرف لن يكون روسيا التي تخشى واشنطن امتداد تأثيرها إلى شرقي سورية خوفاً على انعكاساته على النفوذ الأميركي في العراق، وأيضاً من المستحيل أن يكون إيران التي صممت إدارة ترامب إستراتيجيتها الشرق أوسطية للحد من نفوذها الإقليمي.
لكل ما سبق وقع الخيار الأميركي الطبيعي على تركيا، وعلى الأرجح أن يعمل ترامب على تربيع الطاولة حول شرق سورية لتضم إلى جانب الأميركي، الفرنسي والسعودي، وافداً جديداً هو التركي.
هكذا، وبعد أن كانت أنقرة شريكة في ترتيبات غرب سورية، جلست على طاولة الشرق أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن