من دفتر الوطن

الشجرة المعتقلة!

| حسن م. يوسف 

لست أميل للتعميم، بل إنني أعتبره لغة الحمقى، رغم ذلك فقد قلت على لسان إحدى شخصيات الجزء الأول من مسلسل «إخوة التراب» الذي كتبته قبل نحو ربع قرن.
«الإنكليز مثل البرد سبب كل علة» والحق أنني لم أقصد بهذه العبارة الشعب الإنكليزي، فأنا أكنّ لهذه الشعب الكثير من المودة لأنه قدم للبشرية العديد من المبدعين الخالدين، الذين أسهموا في صياغة أحلام بني البشر وأشواق أرواحهم.
والحق أن هذه العبارة ليست من اختراعي بل هي متداولة على ألسنة الناس، وقد قرأتها في أكثر من سياق، والمقصود بها ليس الإنكليز كشعب، بل السياسة الاستعمارية الإنكليزية التي كانت وما تزال تلعب دور عش الدبابير في السياسة الدولية، فالاستعماريون الإنكليز لم ينسحبوا من أرض احتلوها إلا وزرعوها بالألغام السياسية التي يُوقتون انفجاراتها بحيث تخدم غاياتهم، كوعد بلفور الذي مرت ذكراه المئوية في الثاني من تشرين الثاني الماضي. والذي ما يزال شعبنا العربي في فلسطين يعاني مرارات الاحتلال والنفي واللجوء بسببه. ولو تفحصنا وجه عالمنا المتعب بنا، لوجدنا أن السياسة الاستعمارية الإنكليزية العابرة للقارات تقف وراء كل مشكلات الحدود بين الهند وباكستان، ومصر والسودان والإمارات وإيران… الخ.
لا شك أن لدى الشعب الإنكليزي أشياء كثيرة يعلمنا إياها خاصة في مجال احترام حقوق المواطنة التي تتجلى في احترام الدور والإكثار من استخدام كلمات التهذيب (شكرًا)، (معذرة)، (لو سمحت)… الخ. وللإنكليز يرجع الفضل في تعميم الشاي كمشروب عالمي صحي، فحماستهم لهذا المشروب يضعهم في طليعة شعوب العالم المستهلكة له بل إن استهلاك المواطن الإنكليزي من الشاي أكثر مما يستهلكه الفرنسي والأميركي باثنتين وعشرين مرة!
والإنكليز لهم حصة من غرابة الأطوار مثل كل شعوب العالم، فهناك قانون في بريطانيا يجرم بتهمة الخيانة كل من يضع طابع بريد يحمل صورة الملكة أو الملك بالمقلوب! وفي عام 1961 ألغي قانون عجيب ينص على أن الانتحار جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام، فالمنتحر الذي يفشل في الانتحار كان يلقى القبض عليه ثم يحكم عليه بالإعدام!
غير أن غرابة أطوار الإنكليز لم تقف عند حدود بلدهم، فأثناء زيارتي إلى باكستان زرنا منطقة بيشاور الخاضعة لسلطة القبائل والقريبة من الحدود مع أفغانستان حيث احتفل بنا في مبنى كبير كان في السابق ثكنة للجيش الإنكليزي.
أثناء تجوالنا في الثكنة استوقفني مشهد غريب لشجرة ضخمة من نوع بانيان مكبلة بالسلاسل وقد علقت حول جذعها لوحة كتب عليها ما يلي على لسان الشجرة:
«أنا رهن الاعتقال؛ في أمسيةٍ لطيفة الطقس ظن أحد الضباط الإنكليز، بعد أن شرب الكثير من الخمر، أنني قد تحركت من مكاني الأصلي فأمر الرقيب الذي يتبع له باعتقالي، وأنا لا أزال معتقلة منذ ذلك الوقت».
الشيء الأكيد هو أن الضابط الإنكليزي السكير جيمس سكويد الذي أمر باعتقال شجرة البانيان في عام 1918 قد شبع موتاً، لكن الشجرة لا تزال معتقلة حتى الآن، والطريف أن أهالي تلك المنطقة الفقيرة المهملة يتباهون بحماقة جيمس سكويد باعتبارها إحدى نقاط الجذب السياحي في منطقتهم!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن