ثقافة وفن

نديم محمد شاعر العناكب والألم

| سارة سلامة

أسمعتها في مستهل الصبا
أسطورة رحت بها معجبا
كانت بكفّ الله مجموعة
من كل نفس مثله بالإبا
إذا عدّ الشعراء المجلون في شعرنا العربي عموماً والسوري خاصة، فإن نديم محمد واحد في طليعة هؤلاء الشعراء، وإذا أردنا معرفة شعراء الرومانسية والحلم بعالم أفضل فإن نديم محمد يمثلهم في الشعر العربي خير تمثيل.
وإذا بحثنا عن الشعراء المرتبطين بوطنهم وأرضهم وبيئتهم الضيقة، ووطنهم العربي الكبير، وهم يحلمون بمجده ووحدته وخلوده فنديم محمد كان الشاعر العروبي حتى النخاع.
وإذا كان شاعرنا قد عنون مجموعاته: آلام، فراشات وعناكب، فقد عنون مجموعات أخرى: صراع الثأر، رفاق يمضون، فقد كان ثائراً محارباً للفساد ومظاهره، وكان وفياً لأصدقائه ومبادئه حتى أخريات أيامه.
صدر عن وزارة الثقافة، الهيئة السورية للكتاب، كتاب يحمل وقائع الندوة الثقافية التي حملت عنوان «نديم محمد شاعر العناكب والألم» والتي تأتي ضمن ندوات الأربعاء الثقافية التي اعتادت الوزارة إقامتها، والكتاب من إعداد وتوثيق الدكتور إسماعيل مروة ونزيه خوري، واحتوى المحاور التالية: نديم محمد الشعر والشاعرية للدكتور محمد رضوان الداية، وقراءة نقدية في شعر نديم محمد للدكتور رياض العوابدة، ونديم محمد وعصره لمالك صقور، وفراشات فوق عناكب الألم للدكتور إسماعيل مروة.

الشعر والشاعرية
ومما جاء في المحور الذي تناوله الدكتور محمد رضوان الداية بعنوان (نديم محمد الشعر والشاعرية) أن: «أشعار نديم محمد هي كثيرة ومتقنة وصادرة عن شاعر متمكن، لافتة، عالية الرصيد الشعري (إذا احتكمنا إلى معايير النقد الأدبي لذلك)، ويرد على الباحث، وعلى قارئ شعر نديم محمد أكثر من سؤال، وهو أمام (لائحة) أسماء شعراء سورية المشهورين، أصحاب الدواوين الظاهرين على ساحة الأدب والفكر والفن: لم يتم طبع أشعار نديم محمد كاملة في حياته وكان يأمل أن يرى تراثه الشعري مطبوعاً، مجموعاً، ونقرأ في كلمة (أسرة الشاعر) في صدر المجلد الثاني من الأعمال الشعرية الكاملة، (كانت أغلى أمنيات الشاعر في سنواته الأخيرة أن يرى نتاجه الأدبي والشعري مطبوعاً يأخذ طريقه إلى أيدي القراء في وطنه العربي.. إلخ)».
والشاعر يصف نفسه في ترجمة ذاتية قصيرة تنبئ عن أمور وتتجافى عن أمور، وهذا الذي نسميه ترجمة ذاتية جاء مفرقاً في صفحات من (الأعمال الشعرية الكاملة)، مقسمة على مواضع متعددة ويضيف إلى ما صرّح به الشاعر من أحواله ما يستطيع القارئ أن يستفيده من قصائده ومقطعاته في مجموعاته أو دواوينه وعلى القارئ والدارس أن يمرر هذا الذي يطالعه في الديوان مما يخص حياة الشاعر وأحواله على مظهرٍ أو مبين، أو مفسر ليكون ما يتلقاه من الشعر، أو يستنتجه قابلاً حقاً ليكون إضافة صحيحة مفيدة أو ما يقرب من ذلك».
كما أن في شعر نديم مساحة لقضايا الأمة الكبرى في أحوالها المختلفة: هذا الكابوس الجاثم على أرض فلسطين، الذي يتشيطن ويتغوّل، ويزداد إيغالاً في مقاصد الاحتلال وكل ما يتبعها على حين تتقلب الأمة وهي دولٌ متعددة في همومها، والأحداث الكثيرة التي عاصرها الشاعر، ووجدت في نفسه وقلمه صدى وأثراً، فظهرت في منظومه، وشغلت من فكره وقلبه، ووجد (المعذبون في الأرض) كما سماهم طه حسين ناصراً لهم في نتاج نديم محمد، ونقرأ في قصيدة (اللهب الرحيم):
أيهون في وطن العرو
بة والحمية وجه حرٍ؟
أتجوع أفواهٌ وتعــ
ــرى أذرع من كل ستر؟
أنذيقها ألماً ونكـــ
ــسوها بإيذاءٍ وشرّ؟

قراءة نقدية
وتناول الدكتور رياض العوابدة محور بعنوان (قراءة نقدية في شعر نديم محمد) حيث قال: «إن نديم كان شديد الصلة بتراث أمته ولغته العربية، فتأصلت في نفس الشاعر هذه النزعة التراثية الأصيلة التي بقيت ملازمة له شكلاً ومضموناً، فمن حيث الشكل التزم الشاعر نظام القصيدة الموزونة (ذات الشطرين)، وما كتبه من شعر حديث (شعر التفعيلة) خارج هذا الالتزام لم يتجاوز القصائد الست كان للتسلية كما يقول الشاعر نفسه، أما من حيث المضمون، فقد حافظ الشاعر على اللغة وجماليات الأسلوب العربي الأصيل، فلم ينحرف بها على الرغم من انحراف غيره من الشعراء المعاصرين وانسياقهم خلف تيارات الحداثة التي عاصرها الشاعر، بل نجده يؤكد فهمه ورؤيته للشعر، فيعد الوزن واللغة السليمة أساساً في كتابة الشعر، وهذا الجانب التراثي في لغته ينقلنا إلى الكشف عن قراءات نديم محمد الشعرية ومدى انعكاساتها، وتأثر اسلوبه التعبيري بها، واستفادة متنه اللغوي من هذه الذاكرة التراثية فيما يسمى المصطلح النقدي (التناص)، فنجد في شعر نديم محمد أخلاقيات عنترة بن شداد، إذ قال:
أثني عليّ بما علمت فإنني
سمح مخالقتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل
مرٌّ مذاقته كطعم العلقم
فهو يلتقي مع قول نديم محمد:
جربت أخلاق الرجا
ل فقلت أختار السماحا
ويعد الشاعر نديم من رواد القصيدة الكلاسيكية، اعتمد المذهب الرومانسي، وشكل ظاهرة مميزة في تاريخ الشعر العربي المعاصر عامة، والشعر السوري خاصة، فهو شاعر الألم والحرمان والحزن والعزلة، عاش حزيناً، ومات وحيداً، لاحقته الخيبات، ولكنها لم تمنعه من أن يكون شاعراً عظيماً بنتاجه الشعري ومواقفه ورؤاه».

نديم وعصره
وتناول هذا المحور مالك صقور حيث قال إن: «الشاعر كتب معرفاً بنفسه، كتب عن حسبه ونسبه وأسرته، إذ تفتحت موهبته عندما أصبح عمره أحد عشر عاماً في بداية المراهقة ولا بد من ذكر بيتين للتعرف على شاعر المستقبل إذ قال:
لقد زعموا بأن لنا إلهاً
ألا أن الجمال هو الإله
فقل للزاعمين برئت منهم
فإني لم أجد رباً سواه
سبب هذان البيتان هدر دمه، فقد أهدر (المشايخ) دم نديم على الرغم من حداثته، ففر من القرية ولجأ إلى عائلة في أعلى الجبال، وبقي مختبئاً حتى هدأت العاصفة، والأرجح أنه عفي عنه بسبب وجاهة أبيه وغناه، وفي تقديري إن تمرد نديم في هذين البيتين، ليس لإعلان إلحاده أو عدم الاعتراف بالإله (لأنه ما زال صغيراً) بقدر ما هو تمرد وتحد للعقلية السائدة، التي تسيطر عليها حفنة من رجال يرفضهم نديم، وبعيد تلك الفترة بقليل وهو في بيروت في مدرسة (اللاييك) ألقى نديم قصيدة طويلة في ذكرى الشهداء العرب، شهداء السادس من أيار وذلك في 6 أيار عام 1926:
أسمعتها في مستهل الصبا
أسطورة رحت بها معجبا
كانت بكفّ الله مجموعة
من كل نفس مثله بالإبا
شهيدة الإعجاب في صنعها
فمرحباً بالموت، يا مرحبا
نديم محمد الحالم، أطلقوا عليه: شاعر الألم والآلام، وأطلقوا عليه شاعر الكبرياء، وأطلقوا عليه: شاعر الكبرياء والخيبات، وقالوا فيه شاعر المرارة والعذابات، عاش مظلوماً ومات مظلوماً، ولم ينصف إلا بعد مماته».

فراشات فوق عناكب الألم
وفي محوره قال الدكتور إسماعيل مروة إن: «الألم والحزن لم يرافق شاعراً كما رافق نديم ولذلك وصف لدى النقاد بأنه شاعر الوجدان، وأدرك الشاعر بحسّه الكبير هذا فسمّى دواوينه أسماء تدل عليه في كل فاصلة: آلام، رفاق يمضون، فراشات وعناكب، آفاق، ورود وخريف، من خيال الماضي، وربما كانت آلام نديم صادرة عن أمور صرح بها في شعره حيناً ولم يصرح في أغلب الأحيان:
تصالحه التام مع الذات وعدم مقدرته أن ينسجم مع أي نوع من النفاق الاجتماعي، موقفه من العقيدة، ورغبته الشديدة في أن يحيا ويفكر بحرية تامة، نبذه المبكر لكل مظاهر الفساد والرشوة والوساطة المتفشية في المجتمع، وحرصه على الحق، وأن يوضع هذا الحق في نصابه ولمصلحة الإنسان الذي يستحقه، رحيل أحبته من أصدقاء وأهل وإخوة أمام ناظريه وهو غير قادر على فعل شيء.
ويتميز نديم محمد عن غيره بالابتعاد عن الادعاء، وبالوضوح الذي قد لا يصرح به سواه، ففي هوامش قصائده، وفي نثره يبوح الشاعر بأشياء صارخة تدل دلالة قاطعة على ثقته المطلقة بنفسه وشعره فيقول: قبل أن ألقي انسحب الجمهور وبقيت لأصحابي، ويقول: كدت أقتل، ويعترف بمخالفته الأعراف وأساليب التفكير السائدة في مجتمعه.
نصف قرن عاشه نديم وهو يرى أمامه الواقع المتردي، ويطمح إلى أن يرى أمامه بارقة أمل، وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر استطاعت مصر أن تنتصر على خصومها الدول الثلاث بفضل تمسك شعبها وتآزر العرب، وليس من باب المصادفة أن يكون أكبر شهداء العرب في العدوان الثلاثي من الساحل السوري (جول جمال) ويكون الشاعر المبهور بالحلم العربي القومي من جبلة (نديم محمد) وتخليداً لصمود مصر يقول على لسان جمال عبد الناصر:
قلمت من طغيان هذا.. الغرب ظفر الادّعاء.. وخنقت في حلقومه.. السكران، ضحك الازدراء.. أحنيت رأس البغي حتى.. صك جبهته حذائي.. وبعثت في جبار لندن.. صحوه بعد انتشاء.. أمشي إلى حقي وأمشي.. لا أبالي بالعياء.. إني خطوت وما تعودت.. الرجوع إلى الوراء.. في ذمتي للنصر نصر.. العرب وعد الأقوياء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن