ثقافة وفن

جمال عبد الناصر والناس

| إسماعيل مروة

في منزل عربي بسيط يوجد ما يسمى الكتبيات في كل غرفة، تضم الأواني الزجاجية الفاخرة، وربما كانت الأم تضع بين زبديتين ما تقوم بتوفيره من مصروف البيت، وفي كتبية كانت في منزلنا كنت أرى صورة شخصية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعليها توقيعه الذي لا تخطئه العين جمالاً وصدقاً، وحين وعيت، سألت أخي الأكبر حسن عن هذه الصورة والتوقيع.
فقال لي: إن السوريين يحبون عبد الناصر، وكانوا يرسلون إليه خطاباتهم، وقد جربت هذا الأمر مع طلب صورة بتوقيعه، وكانت المفاجأة أن الرئيس جمال عبد الناصر أرسل صورة وعليها توقيعه وعبارة احترام وحب.. تملكني العجب، ولكنني لم أصدق هذا الكلام إلا عندما طالت نقطة من الماء (دلفت من سقفنا الخشبي إلى طرف الصورة، فإذا بحبر التوقيع يبهت، فعرفت أن التوقيع حقيقي وبالحبر وليس صورة لما في السوق، وكم أسفت لأن هذه الصورة الجميلة مع التاريخ ليست موجودة اليوم بين يدي، فقد ضاعت مع رحيل والدي عن هذه الدنيا، يبدو أنه أخذ أشياءه الحميمة معه!
وحين زرت مصر الحبيبة أول مرة، اتصلت بوالدي واستأذنته بالدعاء لي، فكان طلبه الوحيد أن أزور قبر الرئيس عبد الناصر وأقرأ الفاتحة نيابة عنه، فقد كان يتمنى أن يفعل ذلك، لكن الظروف حالت بينه وبين ذلك.. ذهبت إلى القاهرة، وأول مرة أنزل على أرض فيحدث هذا التناغم معها، وكانت إقامتي في مدينة نصر، إلى جوار استاد القاهرة، ومكان العرض العسكري الذي اغتيل فيه الرئيس أنور السادات.. أنا أحب عبد الناصر، لكن حب العقل الذي لا مشكلة لديه في انتقاد الخطأ، لأن القداسة مفهوم مرفوض لدي، فلدى عبد الناصر الكثير الكثير مما يحبه المرء، ولديه ما ينتقد عليه، وأول ما أخذته أن الذين كانوا ينتمون إليه فكرياً في منطقتنا، جمعوا حولهم الناس، واستغلوا حبهم وطيبتهم، وعندما كانت البعثات العلمية في أبسط الأمثلة تأتي من القاهرة، كانت مخصوصة بأولادهم، وإن كانوا غير مستحقين، وأنا أرى هذا نوعاً من الأخطاء القاتلة، إضافة إلى عدم وجود نظرية متكاملة، على الرغم من وجود الميثاق، وكتب عصمت سيف الدولة وغيره، إلا أن النظرية السياسية لم تكن متبلورة وواضحة، فكنت أرى الناصريين ولا أرى الناصرية، وهذا ما جعل أعداء النهج القومي السليم يتمكنون من النيل من الناصرية وأتباعها.. ما علينا.
طلبت من صديقي الذي أقيم عنده الأخ عصام منصور أن يأخذني لزيارة ضريح جمال عبد الناصر، وكلما فتحت معه الحديث يأخذني بحديث طويل عن رؤية السادات الوطنية، ويحاول أن يقنعني بأن السادات أهم، أما أنا فعبثاً حاولت أن أشرح له أنني لست مؤدلجاً ناصرياً، أما من حيث الرأي، فأنا مع الوطني والقومي النبيل مهما كانت أخطاؤه وأخطاء نهجه، ولست أوافق على إلقاء عصا الكفاح قبل الوصول إلى تسوية كاملة، فالسلام أمر عظيم، ويجب أن تحيا منطقتنا، ولكن ضمن منظومة متكاملة.. المهم ينتهي الحديث بعد منتصف الليل، ونؤجل مشروع الزيارة إلى اليوم التالي، وفي اليوم التالي يحدث ما حدث في السابق، وفي أمسية ليلتي الأخيرة في الزيارة الأولى، لبست ثيابي، وهممت بالخروج، لأنني أريد أن ألبي رغبة والدي الذي أتعشقه، ولا يمكنني إلا أن أنفذ وأرسل له صور تلك الزيارة، وأبي سيسعد، وحين وجد صديقي أنه لا مجال لتغيير رأيي رافقني، وقال: المسافة قريبة ونذهب مشياً، وأنا لم أكن أعرف القبر ومكانه.. وبعد أذان العشاء بنصف ساعة وجدت نفسي مع صديقي في القبة، أمام المسجد الذي يلحق به قبر عبد الناصر، ضرب صديقي كفاً بكف وقال: نسيت يا صديقي، فقبر عبد الناصر يتبع المسجد، ويقفل مع انتهاء الصلاة، وها هو باب القبر الجانبي قد أقفل.. ولأنني مدفوع بطلب والدي، اندفعت إلى الباب الخشبي الكبير وطرقت عليه طرقات خفيفة، وكلي رجاء أن يفتح لي الرئيس جمال عبد الناصر الباب لأراه وأبلغه سلام البسطاء في الشام.. لجمتني المفاجأة حين فتح الباب رجل يلبس ثياباً زرقاء فقيرة لكنها نظيفة، وبيده كيس من النايلون فيه بقايا طعامه، نظر إليّ وقال: (قفلنا النهارده.. بكرا لو سمحت) قلت له: أريد أن أقرأ الفاتحة فقط وأمشي، جئت من بعيد.. وما إن سمع الجيم حتى بادرني، حضرتك من الشام، فأجبت بالإيجاب، ففتح الباب وقال: الريس يحب الشام، لكن بسرعة، دخلت لأرى قبرين متواضعين بهت عنهما الحبر الذي كتب التعريف.. قبر الرئيس جمال عبد الناصر والسيدة زوجته إلى جواره، سررت، قرأت، التقطت بعض الصور، وحين رآني سعيداً وأكرر قراءة الفاتحة، فهذه عن والدي، وهذه عن إعجابي وانبهاري بالتواضع وعزله عن المسجد، أدخلني إلى قاعة الاستقبال، وشرح لي بعض الهدايا الموجودة في الضريح، وسقاني قهوة مرة، واستمرت الزيارة أكثر من نصف ساعة، والعامل البسيط يعبر عن سعادته ويسأل عن الشام، وحين اقتربت من الباب همس صديقي بضرورة إكرام هذا الرجل البسيط، واقتربت منه بحياء لأضع هدية بيده، فتكومت أصابعه كما تتكوم الأصابع الكتعاء، ولم يعد بالإمكان فردها من جديد، نظر إليّ نظرة لا أنساها ما حييت فيها الحب والعتب، وقال لي عبارة كلما عادت إلى ذاكرتي لا أتوقف عن السعادة والبكاء.. مشى ودمعة تطفر من عينه وهو يخاطبني من دون النظر إليّ: عيب يا باشا الريس بيزعل.. وكان يشير إلى قبر الرئيس جمال عبد الناصر الراقد أمامنا، وهو يقول: أحب الشام.. مسح هذا العامل الذي يخدم ضريح جمال عبد الناصر منذ سنوات طويلة كل عتبي على الرئيس الراحل.. فمن ينتم إليه البسطاء وهو في رقدته الأبدية يستحق الانحناء أمامه.. فهل كان الذين يحملون راية عبد الناصر السياسية بمستوى هذا العامل البسيط؟.. لروحك التحية أيها الرئيس المعلم وحبي لذلك البسيط، ولكل من يحمل حبه ووده وانتماءه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن