اقتصاد

موسم الأساطير التجارية

| علي محمود هاشم

اتفقنا على «ثبات السوق».. بهذه الكلمة المفتاحية، لخص التجار نتائج اجتماعهم الأخير مع الحكومة الأربعاء الماضي، مستنكفين -قسرياً- عن لعبة اجتراح الأساطير ودحرجتها في الأسواق تبريرا لاستمرار أرباحهم الفاحشة.
على مدى أشهر الخفض «الحصيف» المتدرج لسعر الدولار، وما تخللها من تعافٍ نقدي أيقظ مشاعر الغبن لدى المستهلكين بعدما حصد ثماره التجار مستمرئين لعبة الآذان والطين والعجين، رافضين الاستجابة بخفض موازٍ في الأسعار حتى إن بعضهم ذهب، ودون مواربة، لاستنهاض أبشع ملكاته الاحتكارية منعا لذلك.. كان أن استعار المصرف المركزي منهم «اللاحصافة»، كآخر الأدوية لضبط الاحتكار ورجالاته!
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، جسدت السياسة النقدية بالفعل التعريف الأرسطوي للدولة بحفاظها على مصالح التجار علهم يستجيبون رضائياً يخفض الأسعار.. عبثاً! وبعدما جادت قرائح بعضهم الاستغلالية فنونا من الاحتكار لإبقاء الأرباح الخيالية عند مستوياتها مديرين طهورهم لما ساقته الجبهات العسكرية والاقتصادية من انتصارات، كان للاستمرار في هذه الحلقة المفرغة تهديد معاني تلك الانتصارات وانتزاع كنهها من وعي المستهلكين.. فجاءت «الصدمة»، كضرورة.
للأسف، عقب قرار «الخفض/الصدمة»، عادت اللغة التصالحية، متخصصو اللسانيات، كان يسهل عليهم التقاط الفوارق بين ما استخدمه التجار من تعابير فجّة لدى تعاطيهم مع التلميحات النقدية الهادئة إلى جشعهم المرضي في ابتلاع المستهلكين، وبين مترادفات التصالح التي أعقبت القرار!.. ولولا أن الأمر سيؤشر باتجاهات محددة، لكان من اللطيف استعادة عينة من تلك التعابير، ما قبل وما بعد؟!
ولأنهم جزء من الصمود الوطني، كان من الطبيعي أن تخشى الحكومة تضرر مصالح التجار «بفعل التعافي»، ما استجلب قعدة تطييب الخواطر يوم الأربعاء الماضي، ومع ما تثيره لفظة «التعافي» من مفارقة فريدة بين مصالح المستهلكين والتجار، فإن الإسهاب لأكثر مما يجب في تفهم ذريعة الأخيرين بـ «إعادة ملء المستودع» قبل خفض الأسعار، سيعزز الشكوك حيال عدالة الحكومة في توزيع الآلام!
فالتجار عموماً، حصدوا فروقات سعر صرف الدولار هبوطا اليوم مضاعفا أيام رفعوا أسعار سلعهم مع قفزاته صعودا خلال السنوات الأخيرة، وما أن تتأخر الحكومة في إلزامهم بالانصياع لعدالة الأسعار، حتى تبرز وعكتها المفاهيمية: لماذا تتفهم تحوّط التجار بأرباح خيالية لـ»ملء المستودع» حين تصاعد الدولار، ولا تتفهم حقّ المستهلك بخفضها وفق المبدأ ذاته، لدى هبوطه؟!.. إن حصل الأمر، فلن يبرهن انحياز التجار لموروث «التاجر المنشار» بعيدا من «التجارة ربح وخسارة» فحسب، وإنما سيرسخ الاعتقاد بنسيان الحكومة اللاواعي لواجباتها إزاء المستهلكين منساقة بطول ذهابها إلى حماية مصالح التجار؟!
على مقلب الإنتاج، لا مخاوف بالقدر الذي يحاول البعض نسج أساطيره جراء قرار «الصدمة» طالما أن تحسن الليرة سوف يشمل حصوله على أولويات أرخص، ناهيك عما سوف يعكسه الأمر إيجابيا على أدائه عبر دفع الطلب الفعال إلى مستويات جديدة تنعكس تحسنا كبيرا في جدواه وتكاليفه القياسية، كما أن لمنعكسات الخفض أن تبرّد سلسلة طويلة من الإخفاقات التي تتربص بقطاع الخدمات.. وهذا يعد أحد الأوجه الهامة اجتماعيا للتعافي الذي نبحث عنه.
في خضم صدمة الدولار وأسبابها الموجبة، رسم بعض التجار بأيديهم «بازل» صورتهم السيئة مبرزين رفضهم النهائي للعبة التقايض مع الحكومة والمستهلكين بعيدا عن ذواتهم المريضة للربح الفاحش، ومع انتفاء قدرة المستهلكين على الاستمرار بلعب دور الضحية والانتظار لأسابيع أخرى كي «يتكبد» التجار «ألم» الاكتفاء بربح منطقي، فلا طريق أمام الحكومة سوى إكسير «عصا الفاتورة» قطعا مع حركة الأسواق الارتجاجية المستمرة منذ سنوات.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن