ثقافة وفن

وثبة القراءة والكتابة

| د. رحيم هادي الشمخي

أشرع مع الكتاب ليوم، أو يومين، أو ثلاثة، ثم أجدني أثب إلى كتاب آخر، ثم بعد يومين أو ثلاثة إلى كتاب ثالث، ثم أعود على تكملتها فيما بعد، وهكذا، احتفيت بالكتاب الإلكتروني، لا لأني أحمل فيه كتبة عامرة حيث أذهب فقط، بل لأنه ييسر لي مزيداً من هذه الوثبات، بين كتاب وكتاب، يلمسه إصبع، تتداخل مع هذا وثبان الكتابة، ومطلع مقالة، ثم أعود إلى منتصف فصل من كتاب لم يكتمل، أو ترجمة تدب بطيئة، أن هجرتها أكثر من شهر، ثم أعود للقراءة أو أهجر كل هذا إلى الإصغاء إلى الموسيقا، الرسم لا يقدم إعانة هذه الأيام، فالكافنس معد في انتظاري ولا بادرة مُلهمة.
هل تسمي كل هذا قلقاً؟ أشك في ذلك أيضاً، هل تسميه رغبة غير منتظمة في المعرفة؟ أشك في ذلك أيضاً، فالقلق يساور المرء القلِق لحظة القراءة وخارجها، وأنا مستسلم للأهداف، ومطمئن إلى أن الحياة لغز السحر، فلِمَ القلق؟ إلا أن هناك قلقاً وجودياً عادة ما يدعم المواصلة في القراءة من أجل ثمرة، ولا يربكها.
هذه حال قراءتي منذ عقود كان فاعلية لذيذة وغير منفصلة عن لذاذة الكتاب، ورقاً، أحرفاً، طباعة، زمناً دفيئاً في الرائحة حين جاءني الكتاب الإلكتروني، لم أمانع، واستطعت أن أتقبل غفلتي عن الورق وحرب الطباعة ورائحة الزمن الدفين، بين حين وحين، واتضحت رغبتي في المعرفة بكل وسيلة متاحة، ولكن لِمَ هذه الوثبة من كتاب لم يكتمل، لكتاب آخر لم يكتمل، وكأني أقرأ كتاباً لم يكتمل لعقود وأنا أتأمل كتبي الورقية بالعلامات المقحمة بين صفحاتها، وكتبي الإلكترونية بعلامات الوقوف، أتاملها، حريصاً على معرفة الدوافع التي بدت لي غامضة، وأنا أدرك أن معرفة الدوافع هي إحدى سبل معرفة النفس، وأنا دائم المثابرة لمعرفة نفسي.
كنت أشعر أن الوثبة من كتاب لم يكتمل لكتاب آخر تنطوي على حاجة، وأن هذه الحاجة تنطوي بدورها على شيء ما يشبه الضيق، أو الأسى، أو الحرمان، أو خلط من هذه المشاعر جميعاً، ولأن هذه الحاجة هي حاجة للمعرفة دون شك، تشبه كل حاجة لدى أي قارئ، اعتبرتها ليست شخصية وغير مقتصرة عليّ، فهجرتها على تأمل تلك المشاعر التي تشبه الضيق، والأسى والحرمان، فهي على ما بدت لي شخصية ومقتصرة عليّ، فأنا لم أقرأ لأحد يزعم بشأن القراءة ما أزعم، ولأني تبنيت هذا، وجدتني أنحني على عالمي الداخلي باحثاً كـ(ديوجين) عن إضاءة، وما من مدخل له أبلغ من قصائدي فصرت أستبعد منها ما اعتقده مفتاحاً، أنا الذي أعتقد دائماً أن قصيدة الشاعر هي قراءة لعالمه الداخلي، لا قراءة للآخر أو قراءة للتاريخ في القصائد، منذ منتصف الستينيات ثم هاجس لا يطمئن للكتاب، للقصيدة، للكلمة، كبديل داخلي للروح والعقل.
القراءة في كتاب لا تهدف إذاً إلى المعرفة وحدها، ثمة هدف آخر أبعد مدى من المعرفة، هو الحقيقة، المحدثون يرون أن الحقيقة وهم، وأنا لا أرى كلمة (وهم) مجرد صفة عارضة، بل هي جوهر في الحقيقة، مادامت الحقيقة على هذا القدر من الغموض، القراءة بحث عن هذه الحقيقة، الوهم، ولذا سرعان ما تشعرني القراءة التي لم تصل بأنها دون طائل، يرهقني سوء الظن بالمواصلة، أتوقف، وأثب إلى قراءة أخرى وثبة (الكنغر) أستعيد الأمل ثانية وأعود لأكمل ما بدأته، ثم أرهق بسوء الظن، ثم أتوقف وأثب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن