ثقافة وفن

فايز خضور… المتمرّس في فجائعيته .. المعتكف إعلاماً… والحاضرُ شعراً

| أحمد محمد السّح

يعتكف الشاعر السوري فايز خضور اليوم في منزله، وحين تسأل عنه فستجيب أنت قبل الآخرين أن وضعه الصحي لم يعد يسمح له بالظهورات الإعلامية التي كان يقل بها طوال حياته، قبل أن تذهب بأفكارك إلى التحليل بأن اعتكافه ناجمٌ عن رغبته في التأمل أكثر منه إلى السخط.
يعتبر فايز خضور من شعراء الجيل الأنجح حضوراً ثقافياً وفكرياً، الجيل الذي عرف الخيبات الكبرى، وعايش وهج الثقافة، وظلام الانتكاسات، لكنه لم يكن يوماً شاعراً مهتماً بالجماهيرية والضجيج، والدليل أنه لم يستثمر في شبابه قصيدة غنتها له فيروز (لا يدوم اغترابي) ولم يسعَ قط إلى الظهورات التي تظهره كشخص قبل أن تظهر نصّه وما فيه من أوجاع. رحلةٌ طويلةٌ مع الشعر تعود ربما بتاريخ بعض النصوص إلى عام 1958، لكن مجموعته الشعرية الأولى كانت «الظل وحارس المقبرة» عام 1966 ليصل عدد مجموعاته الشعرية ما يزيد على عشرين مجموعة كان آخرها «هجائيات هادئة» عام 2015 وظهر وقتها عبر اتصالٍ هاتفي عبر برنامج المختار لإذاعة المدينة fm، أما ظهوره الجماهيري فكان صيف عام 2016 في معرض الكتاب العربي في دمشق، في احتفالية يوم الشعر.

قلت الدراسات أو كثرت التي تناولت شعر فايز خضور، إلا أنها لم تستطع أن تحيط بجوانب الجملة الشعرية التي امتاز بها فايز خضور والتي تطورت وتنوّعت ولكنها احتفظت بفجائعيتها العالية، بالنفَس المنقطع نفسه الذي عاشه كل أبناء جيله من الشعراء السوريين عبر معايشتهم لمراحل تغيرات البلاد التاريخية والثقافية والاجتماعية، ولربما يُرجع الكثير من النقاد أن سبب الفجائعية الأبرز في شعر الشعراء يعود إلى نكسة حزيران عام 1967 التي أثرت في الحياة بشكلها العام وكانت مأساة وطن بكل مكوناته لكن فايز خضور تفرّد بفجائعيته فله نصوص تعود إلى ما قبل النكسة امتازت بوحشتها ووحدتها، إن اعتبرنا هذا الكم من الأحزان المعجونة بروح ولغة فايز خضور ميزة، فهو الذي عايش حزن المدينة والريف فلم تغيّر المدينة من حزنه القروي، فالناس تتبعهم الوحشة أينما حلّوا لأنها تسكنهم ولا يجدونها حيث يسكنون. ففي قصيدته «أظافر المعصية– 1960»:
(كرومي يباس
أأُطعِمُ أهلي يباس،
وفي الأفقِ يضحكُ وحلٌ وعلّةْ؟
فيا حرفُ كن ما اشتهيت:
تمرُّدَ خلقٍ، صبايا، وبيتْ.
لأسهر، أسهر حتى تسحَّ الرؤى من عروقي…
ويظمأَ قنديلُ قلبي لقطرةِ زيت.)
ولكن الفجيعة تستمر وتستمر حتى في إصدارات فايز خضور المتلاحقة عبر عطائه الشعري، ففي مجموعته «رنيم الطائر الجارح– عام 2013» أي بعد نصف قرنٍ وأكثر يقول فيما يشبه القصيدة الواحدة المتغيرة القوافي عبر صفحاتها الكثيرة بذات الوجع وأكثر
(شقاءٌ خصيبٌ، وقتلٌ مشاعٌ،
ودنيا ضياعٌ،
وبؤسٌ عميمُ..!
وقنصٌ طليقٌ ونهبٌ صفيقٌ، وحزنٌ مقيمُ..
فيا نحسهُ في قطار السُّعودِ المهاجرِ،
صوبَ المجاهيلِ،
ضاقت بسكّتهِ في المسيرِ التخومُ..!)
إذاً ليست فجائعية فايز خضور ناجمةً عن نكسة حزيران فهو حزينٌ قبلها، وبعدها بكثير، لأنه الإنسان الذي يعرف معنى حضارة هذه المنطقة جيداً ويتقنُ جذورها وتاريخها، أوغاريتها وحرفها الأول، وهو المتمرّس عبر ولادته الأولى في القامشلي حيث تيارات العروق والإثنيات والأوجاع المتراكمة إلى مدينته العشق سلمية حيث أنين الصحراء وسفيف رمال البادية، يتوهج مع لألاء الحضارة إلى دمشقه وبيروته عاصمتي العشق والسهر، والشعر والأصدقاء والندامى، والديوان الشعري الأول الذي كرسه شاعراً منتمياً إلى الحرف الأبجدي الأول عبر العالم من دون انقطاع وهو الشاعر عميق الانتماء للأسطورة يسكنها ويحفظها وينتهجها من دون انقطاع.
(هزهز التاريخُ رمحه
كلما غنى على الشرقِ القمر
وتعرّت «أوجاريتْ»
تطعم الأجيالَ قمحاً وزبيبْ
تزرع الأفق الجديبْ
حبةٌ كالنورِ سمحةْ
وتروّي عِرْقهُ اليبسانَ زيتْ..)
لم ينسَ صاحب «آداد» قصيدته ومجموعته الأقسى عام 1982 أن يعود إليها، قصيدةً وأسطورةً ليحاورها من جديد ففي «حلمه الرابع» ضمن مجموعته «حصار الجهات العشر– عام 1993» يعود إلى آداده.
(طوّلتُ في لقياكَ يا آدادُ،
بعد حوارنا الباهي:
عن الفنّ المجدِّد للحياةِ،
إذا غزاها الجهلُ والصحراءُ،
«والمتمدينون البدوُ»،
من يستبدلون الأزرق البحري بالطينِ المسلح)
يكتبُ فايز خضور انتماءه للتاريخ، بحروفٍ تميّز المارقين من الأصلاء، هو يعرف بعقلٍ منفتحٍ وواضح لأي أرضٍ ينتمي لأنه يتنفس البحر ويتلمّس الصحراء بكفيهِ، ويعرف الطبيعة التي تتنوعُ في حياته ويحضُرُ تنوعها في شعره ولغته، فقصيدة فايز خضور بكلِّ ما فيها تزخر بالطبيعة رمزاً ومعنى وواقعاً، فيحضر الجرادُ واليباس والبحرُ والنهرُ، كما تحضر الشجرةُ بخضرتها والطيور بأشكالها فهو رجلٌ متعشقٌ للتراب بعيدٌ عن الإسمنت ومظاهره وتجلياته، إنما يدرك ببصيرة طفولته التي عاشها أنه من الأرض بكل تجليات ظهورها ورمزيتها، ويعرف الريح والنار والماء، فهو العنصر الخامس- الإنسانُ/ الشاعر– الذي يتكوّنُ من وهج العناصر الأربعة.
(لئيمةً تلوّحُ البروقْ.
جوانح الرياح تغزل الدخان شمعةً
تنقّطُ العزاء في العروق
ومقلةٌ كسيرةٌ تغيبُ رعشةً مع السحاب…
فشوقنا المعلّقُ الشروش في مزارع الوطنْ
يشدّنا، يشدّنا.
هي السفوحُ حلوةٌ خدودها «المغبرة».
كم اشتهيتُ لو سرقتُ في جيوبي العريضة الثقوبْ
من التراب كمشةً، من الطيورِ قبّرة…)
ضمن جزءٍ من مقطعٍ شعري في قصيدة واحدة، تجد ما يزيد على عشر كلماتٍ من وحي الطبيعة، وهذا جزء من مفردةِ فايز خضور المتوهّجة التي تميز بها وتميزت به.
فايز خضور الشاعر الذي ترك نصوصه جيدها وأقلها جودةً من دون حذفٍ أو تعديل ضمن أعماله الكاملة لقناعته أنها تعتبر «توثيقاً للمراحل التجريبية في هيكلية القصيدة الجديدة» فهو المبتعد عن التنظير والإجابات العادية لكيلا يبقى «شيئاً ممتعاً فقط» يجيب عن شيء من سؤال اعتكافه في خاتمة لابد منها في كتابه «حصار الجهات العشر» يجد «مسلكاً لحصاةٍ في الحلق» فيشرح ببساطة واستفاضة:
(… وأما الذي نراه، ونسمع به، ونعاني منه و«نصبو إليه»… ونقتتل بسببه فهو حرية» تسويق النص لمفهومات العرض والطلب، والرفض والقبول، والرواج والكساد… وهنا يتدخّل سماسرة السلطات الإعلامية في «سوق البورصة»، إن لم نقل في «سوق الهال الثقافي»!)
لا إجابات جاهزة لدى فايز خضور يلجأ إليها ليقول ما يريد فهو منحازٌ إلى الإبداع وحده ومتضامنٌ معه، ويعتمد على اجتهاده في ملامسة جماليات الإبداع، التي لن يستطيع مقالٌ واحدٌ أو دراسةٌ الإحاطة بها عند الشاعر فايز خضور الذي نحتاج إلى الكثير للإبحار في تجربته التي أعطت وما زالت تعطي لنا كأجيال مزيداً من الأمل بالشعر ووهج القصيدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن